مع حرمان الناس من صلاة التراويح في المسجد، وشعور غالب المسلمين بهذا الفقد، فإن من الأولى أن نتعامل مع المحنة باعتبارها منحة من الله، فصلاة التراويح في البيت من البركات على أهل البيت، وجمع الرجل أهله للصلاة بهم التراويح فيها خير كثير، ويمكن له أن يزيد في القراءة وأن يطيل في الركوع والسجود بما يقربه وأهله من الله تعالى.
وهذه بعض الأحكام التي تتعلق بصلاة التراويح وبعض الاقتراحات التي تتعلق بها في زمن كوورنا.
تعريف التراويح:
سميت صلاة التراويح بهذا الاسم؛ لأن التراويح جمع ترويحة، ولأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين
تاريخ التراويح:
بدأت صلاة التراويح مع الصحابة بشكل منفرد، حيث إنهم كانوا يصلونها جماعات متفرقة ثم جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وصلاها بهم، ثم ترك بهم الصلاة جماعة خشية أن تفرد عليهم.
ودليل ذلك ما ورد عن عائشة قالت: كان الناس يصلون في المسجد في رمضان أوزاعا فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربت له حصيرا فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وصلى بصلاته الناس.
قال الخطابي في معالم السنن (1/ 281): ” قولها أوزاعاً يريد متفرقين ومن هذا قولهم وزعت الشيء إذا فرقته وفيه إثبات الجماعة في قيام شهر رمضان، وفيه إبطال قول من زعم إنها محدثة”..
قال أبو هريرة «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يرغب في قيام رمضان، من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، فيقول: من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه» وقالت عائشة: «صلى النبي – صلى الله عليه وسلم – في المسجد ذات ليلة، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، وكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما أصبح، قال: قد رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم قال: وذلك في رمضان» . رواهما مسلم
وعن أبي ذر، قال: «صمنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر، حتى بقي سبع. فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل. فقلت: يا رسول الله، لو نفلتنا قيام هذه الليلة؟ قال: فقال: إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف، حسب له قيام ليلة. قال: فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح؟ قال: قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور. ثم لم يقم بنا بقية الشهر.» رواه أبو داود، والأثرم، وابن ماجه.
وعن أبي هريرة، قال: «خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإذا الناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد. فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء ناس ليس معهم قرآن، وأبي بن كعب يصلي بهم، وهم يصلون بصلاته. فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: أصابوا، ونعم ما صنعوا» . رواه أبو داود.
فكان الناس يصلونها إما فرادى أو جماعات، وكذلك كان الشأن في عهد أبي بكر الصديق، ثم لما كان زمان عمر – رضي الله عنه- رأى الناس يصلون متفرقين، فجمعهم على إمام واحد، وأمر أبي بن كعب أن يصلي بهم. فروى عبد الرحمن بن عبد القاري، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد، لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم. فقال: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله. أخرجه البخاري.
عدد ركعاتها:
اختلف الفقهاء في عدد ركعات التراويح، وأشهر الأقوال فيها ما يلي:
الرأي الأول: أنها عشرون ركعة، وبهذا قال الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي وأحمد.
واستدلوا أن عمر، – رضي الله عنه – لما جمع الناس على أبي بن كعب، وكان يصلي لهم عشرين ركعة، وقد روى الحسن أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي لهم عشرين ليلة، ولا يقنت بهم إلا في النصف الثاني. رواه أبو داود، وروى مالك، عن يزيد بن رومان، قال: كان الناس يقومون في زمن عمر في رمضان بثلاث وعشرين ركعة. وعن علي، أنه أمر رجلا يصلي بهم في رمضان عشرين ركعة
الرأي الثاني: ستة وثلاثون، وبه قال مالك:. وتعلق بفعل أهل المدينة، فإن صالحا مولى التوأمة، قال: أدركت الناس يقومون بإحدى وأربعين ركعة، يوترون منها بخمس.
قال بعض أهل العلم: إنما فعل هذا أهل المدينة لأنهم أرادوا مساواة أهل مكة، فإن أهل مكة يطوفون سبعا بين كل ترويحتين، فجعل أهل المدينة مكان كل سبع أربع ركعات.
الرأي الثالث: أنها ثماني ركعات أو اثنتا عشرة ركعة.
ودليله قول الأعرج: وكان القاري يقرأ سورة البقرة في ثماني ركعات، وإذا قام بها في ثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف. رواه مالك.
هل الأفضل صلاتها جماعة في المسجد أم فرادى في البيت؟
اختلف الفقهاء في أفضيلة صلاة التراويح في المسجد جماعة أم في البيت فرادى، على رأيين:
الرأي الأول: الأولى صلاتها جماعة في المسجد، وهو رأي أبي حنيفة والليث بن سعد وأحمد بن حنبل، والثوري وداود الظاهري والمزني من الشافعية.
قال الطحاوي: كل من اختار التفرد ينبغي أن يكون ذلك على أن لا يقطع معه القيام في المساجد، فأما التفرد الذي يقطع معه القيام في المساجد فلا.
واستدلوا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:” عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي”، وقد فعلها عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين. وجمع النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه وأهله في حديث أبي ذر، وقوله له: «إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف، كتب لهم قيام تلك الليلة»
وعن إسماعيل بن زياد، قال: مر علي على المساجد وفيها القناديل في شهر رمضان. فقال نور الله على عمر قبره، كما نور علينا مساجدنا. رواهما الأثرم.
الرأي الثاني: أن قيام رمضان لمن قوي في البيت أفضل؛ وهو رأي مالك والشافعي.
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عمر وابنه سالم والقاسم بن محمد وعلقمة وإبراهيم النخعي أنهم كانوا لا يقومون مع الناس في شهر رمضان وعن الحسن البصري أنه سئل عن ذلك فقال تكون أنت تفوه بالقرآن أحب إلي من أن يفاه عليك به وعن ابن عمر تنصب كأنك حمار وعن إبراهيم النخعي لو لم يكن معي إلا سورة أو سورتان لأن أرددها أحب إلي من أن أقوم خلف الإمام في شهر رمضان (طرح التثريب في شرح التقريب (3/ 96)
وذلك لما روى زيد بن ثابت قال: «احتجر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حجيرة بخصفة أو حصير، فخرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيها. فتتبع إليه رجال، وجاءوا يصلون بصلاته قال ثم: جاءوا ليلة فحضروا، وأبطأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنهم، فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم، وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مغضبا، فقال: ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته، إلا الصلاة المكتوبة» . رواه مسلم.
مقدار القراءة في صلاة التراويح:
لم يرد مقدار معين في القراءة، والأولى أن يقرأ ما يجمع عليه الناس، وأن ييسر عليهم، وإن ورد عن البعض أن لا يقل عن قراءة جزء من القرآن، حتى يستمع الناس إلى القرآن كله في رمضان.
قال ابن قدامة في المغني المغني لابن قدامة (2/ 124-125): قال أحمد، – رحمه الله -: يقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخف على الناس، ولا يشق عليهم، ولا سيما في الليالي القصار، والأمر على ما يحتمله الناس. وقال القاضي: لا يستحب النقصان عن ختمه في الشهر؛ ليسمع الناس جميع القرآن، ولا يزيد على ختمه كراهية المشقة على من خلفه. والتقدير بحال الناس أولى؛ فإنه لو اتفق جماعة يرضون بالتطويل ويختارونه، كان أفضل. كما روى أبو ذر، قال: «قمنا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح. يعني السحور.» وقد كان السلف يطيلون الصلاة، حتى قال بعضهم: كانوا إذا انصرفوا يستعجلون خدمهم بالطعام، مخافة طلوع الفجر، وكان القارئ يقرأ بالمائتين.
ومما يدل على ختم القرآن في صلاة التراويح، قال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله فقلت: أختم القرآن، أجعله في الوتر أو في التراويح؟ قال: اجعله في التراويح، حتى يكون لنا دعاء بين اثنين. قلت كيف أصنع.؟ قال إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع، وادع بنا ونحن في الصلاة، وأطل القيام. قلت: بم أدعو؟ قال: بما شئت. قال: ففعلت بما أمرني، وهو خلفي يدعو قائما، ويرفع يديه، وقال حنبل: سمعت أحمد يقول في ختم القرآن: إذا فرغت من قراءة {قل أعوذ برب الناس} [الناس: 1] فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع. قلت: إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال: رأيت أهل مكة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة.
قال العباس بن عبد العظيم: وكذلك أدركنا الناس بالبصرة وبمكة. ويروي أهل المدينة في هذا شيئا، وذكر عن عثمان بن عفان.
قال الأعرج: وكان القاري يقرأ سورة البقرة في ثماني ركعات، وإذا قام بها في ثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف. رواه مالك.
قال أبو الحسن المباركفوري في مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 336):
قيل: هذا يدل على أن تطويل القراءة في التراويح أفضل، وهو عندي على قدر نشاط القوم فيراعيهم في ذلك لئلا يملوا، فيتركوا التراويح بالجماعة أو جملة.
وقال بدر العيني في نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار (5/ 104-105): وقال أصحابنا: روى الحسن، عن أبي حنيفة: أن الإِمام يقرأ في كل ركعة عشر آيات أو نحوها؛ لأن السنة في التراويح الختم مرة، وعدد ركعات التراويح في جميع الشهر ستمائة، وعدد آي القرآن ستة آلاف وشيء، فإذا قرأ عشر آيات في كل ركعة يحصل الختم فيها.
وقال صاحب “الهداية”: ولم يذكر قدر القراءة، وكثر المشاع على أن السنة فيها الختم مرة؛ فلا يترك لكسل القوم.
ويستحب لمن لا يقدر على صلاة التراويح أن يحضر المسجد ويستمع دون أن يصلي؛ طلبا للبركة من الصلاة.
جاء في شرح صحيح البخارى لابن بطال (3/ 120-121): قال الطحاوي: وقد أجمعوا على أنه لا يجوز تعطيل لمساجد عن قيام رمضان، فصار هذا القيام واجبا على الكفاية، فمن فعله كان أفضل ممن انفرد كالفروض التي على الكفاية. قال ابن القصار: أما الذين لا يقدرون ولا يقوون على القيام، فالأفضل لهم حضورها ليسمعوا القرآن وتحصل لهم الصلاة ويقيموا السنة التي قد صارت علما.
اقتراح في صلاة التراويح:
لما كان الناس اليوم لا يصلون التراويح في المسجد جراء الحجر الصحي بسبب فيروس كورونا، فإنه من الأفضل أن يختم الناس القرآن قراءة في صلاة التراويح، فيصلون بجزء من القرآن، سواء صلوا ثماني ركعات، فيقرأ في كل ركعة ربعا من القرآن، وقراءة الربع تأخذ من ثلاث إلى أربع دقائق بقراءة الحدر، كما يمكن للرجل أن يستريح بعد كل ركعتين، وأن ينشط هو وأهله في ختم القرآن، أو أن يصلي إحدى وعشرين ركعة، أو ستا وثلاثين ركعة فيختم القرآن في صلاة التراويح، وهو أمر ميسور على من يسره الله عليه.
وذلك اقتداء بالصحابة – رضوان الله عليهم- فقد كانوا يقرأون المئين، ويعتمدون على العصي من طول القيام، ولا ينصرفون إلاّ قبل بزوغ الفجر، فيستعجلون الخدم بالطعام مخافة أن يطَّلع عليهم، وكانوا يقرأون بسورة البقرة في ثماني ركعات، فلا يكون الأمر أقل من قراءة جزء من القرآن، بحيث تكون الصلاة غالبا قريبا من ثلاثين دقيقة أو أربعين على أقصى تقدير، فإن صلوا بأقل فلا حرج في ذلك.