الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه، أما بعد..
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ {27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً {28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي {29} وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر)، وَرَوَى الْبُخَاِرِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّة»، فَقُلْنَا: وَثَلاَثَةٌ، قَالَ: «وَثَلاَثَةٌ»، فَقُلْنَا: وَاثْنَانِ، قَالَ: «وَاثْنَانِ»، ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الوَاحِدِ. (رقم الحديث: 1285)، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عِنْدَمَا أَثْنُوْا عَلَى جَنَازَةٍ خَيْرًا: «وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» (البخاري: 1367، مسلم: 949).
يقف المرء حائراً أمام بعض الشخصيات الفاضلة الخيرة المعطاءة، تتوه منه الكلمات، فيبحث عنها في بحرٍ ماؤُه من الذهب، ليقدر هؤلاء حق قدرهم، رجالاتٌ من الكويت يشهد التاريخ مآثرهم، سطروا الصفحات البيض في مسيرة تاريخهم، ومن هؤلاء الرجال العم يوسف جاسم الحجي، فارس العمل الخيري، والطود الشامخ في عطائه للكويت وللعالم الإسلامي أجمع في مجال الخير والدعوة.
إنه واحد من الرجال العظماء الذين يتركون آثاراً طيبة في حياتهم، ويسطرون بأفعالهم وأقوالهم نماذج حسنة، تقتدي بها الأجيال من بعدهم، ومن هؤلاء العمالقة العم أبو يعقوب رحمه الله تعالى، لقد ترك أثراً شامخاً، حتى قيل فيه: «لا يذكر العمل الخيري في الكويت إلا ويتبادر إلى الذهن اسم العم الشيخ يوسف جاسم الحجي»، يفرض محبته على الآخرين، ذو سمت طيب، وهدوء ورزانة، يخفض الْجنَاح لأصحابه وإخوانه، لين الْكَلِمَة، دائم البشر، كثير التودد، صاحب الْأَخْلاَقِ الرَّفِيعَةِ.
تقلد المناصب العديدة، فمن وكيل لوزارة الصحة، إلى رئاسة جمعية الإصلاح الاجتماعي، إلى رئاسة الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، وغيرها من المناصب الكثيرة، ومع كثرة أوصافه رحمه الله إلا أنه تألق بعبادة أحوج ما يكون فيها صاحب المناصب والجاه، وهي عبادة الورع، وقد عرفناه ورعاً تقياً يتحرى في موافقة الشرع، وَتَرْكِ كلِّ ما فيه شبهة أثناء تقلده لقيادة المؤسسات التي يقوم بإدارتها؛ أخذاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كُنْ وَرِعاً تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ».
وَقَلِيْلٌ هم الذين يتصفون بالورع، فهي صفة الكبار، وسلفهم في ذلك عظماء الصحابة رضوان الله عليهم، والذي منهم مصعب بن عمير رضي الله عنه، كان قبل الإسلام أعطر وأزين شباب قريش، وهو الشباب المدلل عند أمه، لكن بعد استشهاده في غزوة أحد قال عنه عبدالرحمن بن عوف: «قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ: إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ، واليوم بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي» (رواه البخاري: 3849).
بهؤلاء الرجال حُفظتِ الكويت
إن سلوك الإنسان في حياته مرهون بصدقه وعلاقته مع ربه جل وعلا وطهارة قلبه، وبهذا قال عَبْداللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ» (أخرجه أحمد: 1/379/3600)، وحسنه الألباني.
والعم أبو يعقوب رحمه الله تعالى ما عرفنا منه إلا أن قلبه كان زاهداً في المال والجاه، وقليل من يزهد بالجاه والمال والمنصب.
وظهر هذا الأمر جلياً في الفترة الطويلة التي قضاها في الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية فلم يجعلها مطية لجاهٍ أو مالٍ، فكان عفيفاً طاهراً، وهذه خصلة أصيلة في قلبه، حتى إنه عندما كان وكيلاً في وزارة الصحة وتحت مسؤوليته الأدوية، كان لا يصرف أي عهدة إلا بعد أن يتأكد أنه قد استخدم فعلاً، حتى كان يطلب التأكد من عدد القارورات الصغيرة حرصاً منه ورعاية للمال العام.
بهؤلاء الرجال الكبار حُفظتِ الكويت سابقاً، وإن شاء الله تحفظ لاحقاً، إذا أخذت الجهات الرسمية على يد من سولت لهم أنفسهم بالاستيلاء على الأموال العامة سواء أكانت في المؤسسات الحكومية أو مؤسسات المجتمع المدني، وللأسف الشديد ومع تناقص الخيرية الطبيعية في البشرية رأينا صورة مناقضة لصورة هذا العملاق، فرأينا مدرساً بالمدارس الإعدادية يذهب به ظاهر الصلاح إلى البرلمان أو إلى الوزارة، أو طبيباً في وزارة الصحة أو موظفاً من أصحاب الرواتب المحددة، تذهب بهم المقادير إلى مناصب في الوزارات أو في البرلمانات، فتكشف لنا السجلات والبيانات عشرات الملايين، بل مئات الملايين في أرصدتهم، مسروقة قد أخذوها ظلماً وعدواناً من الأموال العامة، وهذا شذوذ في وقعنا اليوم الذي نراه ونسمع به.
وإن كان هناك من شيء، فإنا نقول: إن موت هؤلاء الكبار كالعم أبي يعقوب رحمه الله تعالى موعظة للناس أن يراجعوا أنفسهم في هذه الأموال التي اكتسبوها، على الأقل بالنسبة للدعاة أن يراجعوا كل ما أخذوه بتأويل فاسد.
إنا ندعو أولئك إلى أن يتوبوا إلى الله تعالى، توبة نصوحاً محققة كل شروطها، من الإقلاع عن الذنب والندم والعزم على عدم الرجوع، وإرجاع الحقوق إلى أهلها، وخاصة الأموال العامة، فهي أشد وأخطر المال الحرام، وإلا فالويل ثم الويل لمن جاءته لحظة الموت ولم يُرجع هذه الحقوق، فإنها ستُؤخذ منه رغم أنفه يوم الحساب، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، أي: من حرام»، وأخرج البخاري وأحمد من حديث خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ –يتصرفون- فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، نسأل الله تعالى المغفرة لنا ولهم، أن يطهرنا من كل درهم أو جاه ليس لنا حق فيه.
لقد عزمت ألا أرثي بعد العم «أبو يعقوب» رحمه الله تعالى أحداً.
لقد رثيت الكثير ممن عرفتهم بالخير وعاصرتهم وجالستهم، رثيت والدي ووالدتي رحمهما الله تعالى، ورثيت الكبار ممن لهم فضل على الأمة الإسلامية والدعوة، فقد رثيت الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ عبدالله بن قعود، والشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد، والشيخ عمر بن سليمان الأشقر، والشيخ محمد بن سليمان الأشقر، والشيخ محمد محمود الصواف، أحد علماء العراق والدعاة الإسلاميين، والشيخ محفوظ بن محمد نحناح، من الجزائر، والقاضي الفقيه المستشار فيصل مولوي، وفتحي يكين رحمه الله، من لبنان، ومن سورية رثيت الشيخ عبدالفتاح أبو غدة، ود. حسن هويدي، ومصطفى مشهور، في مصر، وكذلك الشيخ عب الله علي المطوع (رحمهم الله تعالى جميعاً)، وغيرهم كثير من رجالات الدعوة، الذين عاصرناهم وجالسناهم في الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية.
وما من أحد منهم إلا واستفادت الأمة منه، وكانت لي معه مواقف طيبة أحتفظ بها لعل الله جل وعلا يلحقنا بهم وبالصالحين سبحانه وتعالى، وأن يجمعنا بهم في مستقر رحمته.
وهؤلاء من صنوف العلماء الكبار الذين كان لنا معهم مواقف طيبة في مسيرتنا ودعوتنا.
وكل مرة كنت أقول: سوف أختم رثائي، وها أنا اليوم أختم رثائي بالعم أبي يعقوب، ولن أرثي بعد وفاته أحداً، وأكتفي بالدعاء لهم بظهر الغيب.
مواقف شخصية
مواقف كثيرة تدل على حرصه على الوئام والمحبة والإخاء، وهي سجية وخلق متأصل في سيرة العم يوسف الحجي رحمه الله تعالى.
الموقف الأول: من بدايات الصحوة في الكويت عام 1967م، كان رجالات الكويت الكبار في رعاية شباب الدعوة، العم عبدالله علي المطوع رحمه الله، والعم أبو يعقوب يوسف الحجي، والخال أحمد البزيع الياسين رحمه الله، كانوا حريصين على ألا تتوزع في الكويت الجهود في الصراعات الدعوية بين بعض مجاميع الدعاة في مؤسسات المجتمع المدني، حيث كان النزغ الشيطاني الذي يعصف بين الحين والآخر، وكان العم أبو يعقوب وإخوانه يحرصون بصدق على أن يحققوا الوئام والمحبة والإخاء بين هذه المجاميع.
الموقف الثاني: رئاسته للهيئة الخيرية الإسلامية العالمية؛ فقد ترأس العم يوسف الحجي الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية منذ إنشائها في عام 1404هـ/ 1984م، واختير بالإجماع رئيساً لمجلس إدارتها منذ تأسيسها، وإعلانها بالمرسوم الأميري، بقانون رقم (64 لعام 1986م)، والشهادة لله لقد دُعِي للهيئة الخيرية كمؤسسين أعداد من كل البلاد، كانوا حرصين على إنشائها، لتحقيق هدفها في جمع مليار دولار لاستثمارها والإنفاق من عائدها لمقاومة ثالوث الخطر (الفقر، والجهل، والمرض)، تحت شعار «ادفع دولاراً تنقذ مسلماً».
وظلَّ رحمه الله تعالى رئيساً لمجلس الإدارة مدة خمسة وعشرين عاماً منذ تأسيسها، ليتمكن خلال هذه الفترة بالتعاون مع مجلس الإدارة والجمعية العمومية والعاملين معه بتوسيع نشاط ومجالات عمل الهيئة لتحقيق أهدافها وغاياتها النبيلة والطموحة.
هذا، وقد تم التبرع في وقت انعقاد الهيئة التأسيسية كأموال وقفية، تبدأ فيها الهيئة والرؤساء الكبار (العم يوسف الحجي، والعم عبدالله المطوع، والعم أحمد البزيع) كلٌ بما آتاه الله، وبعد أسبوع من انتهاء الاجتماع التأسيسي دار في خلدي أني لا أملك مالاً لأتبرع به في هذه المحفظة الرائدة (مليار دولار)، ومن المناسب ألا أتصدر في مكان لا أستطيع أن أنفع به، والموجودون فيهم البركة والخير، فقدمت اعتذاري وطلب إعفائي من العم أبي يعقوب، فأرجع رسالة الاعتذار بكل لطف ورقة وبكلمات أدبية جميلة، مع الرفض للطلب، ومع ذلك ظلت الفكرة في ذهني، والمعروف أنه في الغالب عندما يشتغل الإنسان في شيء، ويهمه أمره، يوفقه الله لتحقيقه، وخصوصاً عندما يكون الأمر متعلقاً بنصرة الدين، فهداني الله إلى فكرة «تجزئة الوقف».
وتبلورت فكرة تجزئة الوقف بالعمل على إشراك المجتمع بجميع أطيافه للمساهمة في الوقف، وبدأت أضع أدبيات هذا المشروع تحت مسمى «وقفية ألف ألف (أي مليون) دولار»، تتكون فيها محافظ تساهم في تحقيق الهدف المالي «مليار دولار»، فبدأت في آخر الثمانينيات بالمشروع، وخلال أقل من سنة ونصف سنة تكونت عندنا ثلاث محافظ، كل محفظة فيها 300 ألف دينار كويتي، واشترينا بها 3 عمارات، وبعد ذلك جاء الغزو العراقي الظالم، وعندما رجعت الكويت بفضل الله تعالى كانت هذه العمارات الثلاث المكون الوقفي للهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، فحمدت الله أنني لم أكن عبئاً على هذه الهيئة الرائدة.
ولولا تسهيلات العم أبي يعقوب رحمه الله تعالى ما كان لنا أن نحقق ذلك.
الموقف الثالث: إظهار الشباب الكويتي على منابر خطبة الجمعة في المساجد، والبدء بإنشاء الموسوعة الفقهية.
ومن مواقفه رحمه الله تعالى التي أذكرها حرصه على أن يتصدر شباب أهل الكويت المنابر والدعوة إلى الله تعالى، فعندما كنت في مقتبل الشباب في العشرينيات، استأذنته وقد كان وزيراً للأوقاف رحمه الله تعالى لكي أصعد المنبر للخطابة، ولم يكن الأمر سهلاً، فما كان يتولى المنبر إلا الكبار في السن، وكان الشباب قلة، فصعدت المنبر وأنا حديث عهد بالمنابر في مسجد عمر بن الخطاب بمنطقة الدسمة، وقد نقلت الخطبة في «التلفزيون الكويتي»، وأذكر وقتها كان موضوع الخطبة عن «المسارعة إلى الخيرات».
لقد كانت هذه مبادرة من العم أبي يعقوب لدعم الشباب في الدعوة، كما كان للعم أبي بدر رحمه الله تعالى فضل إطلاق مشروع الموسوعة الفقهية الكويتية، ثم تبناها بتوجيه كل من الشيخ عبدالستار أبو غدة، وبفضل الله كان لنا فيها شيء من المساهمة بطلب من العم أبي يعقوب.
هذا هو زاد المسافرين إلى الله تعالى، رصيد من الإخلاص، رصيد من الدعوة، رصيد من حب الناس، رصيد من الأعمال الصالحة التي يجري أجرها من بعده.
رحم الله العم أبا يعقوب رحمة واسعة، وجعلنا من بعده خير خلف لخير سلف.