تزايدت في الآونة الأخيرة حالات الانتحار في بعض البلاد العربية على نحو كاد يجعل منها ظاهرة، خلافًا لما كان معتاد في عالمنا الإسلامي من ندرة حالات الانتحار نظرًا لقطعية تحريم قتل النفس في الشريعة الإسلامية، حتى شاع اعتبار الانتحار كفرًا بالله، وزاد بعضهم بأن المنتحر سيخلد في نار جهنم، مما عصم المسلمين من التخلص من حيواتهم مهما ساءت معيشتهم، أو أحاطت بهم أزمات الحياة، حيث كان الله ملاذهم والصبر وسيلتهم.
ولا ريب أن الانتحار جريمة في حق النفس والمجتمع وتعدٍّ على حق من حقوق الله تعالى، باستثناء من تمكن منه مرض الاكتئاب (وما شابهه من أمراض نفسية) حتى أفقده السيطرة على وعيه وإرادته، فهو في حكم المقهور على فعل لولا أكرهه عليه المرض ما ارتكبه، وأمره موكول إلى أرحم الراحمين، فلعله سبحانه يدخله في عموم قاعدة “ليس على المريض حرج”، ويحبذ الدعاء له، بالإضافة إلى زيادة الاهتمام والرعاية لغيره من الشباب حتى لا ينجرفوا إلى مسارات مهلكة نتيجة الإحباط الشديد واليأس من الإصلاح وقتل الأمل في نفوسهم واغتيال أحلامهم.
ولسنا هنا بصدد البحث في الحكم الشرعي للانتحار، أو حسم مصير المنتحرين، ولا ينبغي أن يشغلنا ذلك الآن، بقدر ما يشغلنا وقف هذا الأمر حتى لا يتحول إلى ظاهرة. ويحاول هذا المقال أن يسهم في ذلك عبر التأكيد أن المسلم الواعي/الراشد/المتزن نفسيًا (أي غير المريض على النحو السالف بيانه) لن يلجأ أبدًا إلى الانتحار، لأسباب عديدة، منها:
(1)
أن المسلم الواعي يعلم أنه تعاقد مع الله عز وجل عقدًا لابد أن يلتزم به للنهاية، وهو “عقد الأمانة” الذي يتحمل بموجبه مشقة الحياة ويحافظ على تقواه دون أن ينجرف للوقوع في هاوية المعاصي، منتظرًا موعد وفاته الذي يقرره عز وجل وحده كي يعرف نتيجة اختباره ومدى نجاحه في الالتزام بشروط العقد، فينال الجنة جزاءً من ربه عطاء حسابا إذا كان قد أوفى بالأمانة، أو النار جزاء وفاقا إذا تبين أنه قد ضيع الأمانة.. ومن ثم فإنه سيدرك أنه ليس من حقه أن ينهي الاتفاق من جانب واحد فيقتل نفسه ويقطع ورقة الامتحان لمجرد أنه وجد سؤالا صعبًا في البداية لم يجد له حلاً فوريًا، وقد يجد الحل من عند ربه فيما بعد أو يجد العوض في أسئلة أخرى، إجابتها أيسر، فلماذا سيستعجل ويكون جاهلا متعجلا فيقتل نفسه ملقيًا بها فيما يغضب الطرف الأقوى في العقد الذي قد يرى حينئذ أن يعاقبه عقابًا خالدًا أقسى من أي شيء عانى منه في الدنيا لا ريب، فيلقي سبحانه به في جهنم ولا يبالي؟!
أنصت إذا شئت إلى قوله تعالى: ({إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 72، 73].
(2)
لم يتخل الله عن الإنسان بمجرد إبرام “عقد الأمانة” بل ظل سبحانه يرعاه ويوجهه ويوفر له كافة سبل النجاح ويضع له درجات عظيمة على أعمال بسيطة وكأنه لم يخلق الإنسان إلا ليدخله الجنة!
فعلى الرغم من وحدة الدين (وهو الإسلام بمفهومه الواسع الذي يشتمل على كل الرسالات السماوية) إلا أن الشرائع متعددة ومتنوعة لتتناسب مع نوعية كل جيل من الأجيال، حتى إذا حدثت انحرافات كبيرة عن الطريق المستقيم أرسل الله رسولاً بشريعة جديدة ليعين الإنسان على اختيار الطريق الصحيح، وحين أراد سبحانه أن يختتم رسالاته اختتمها برسالة رحمة للعالمين (وهي رسالة الإسلام بمعناه الضيق، أي التي أنزلت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم)، أنزلها الرحمن لإنقاذ الإنس والجن معًا، من خلال قرآن يتلى بدا وكأنه وحي لكل إنسان (وجماعة وأمة وجنس) على حدة، يوجهه شخصيًا إلى ما يصلح حاله في الدارين، وكانت كل آية فيه تسمو به وتنتشله من الوقوع في هاوية الإخلال باشتراطات عقد الأمانة، حتى إنك إذا بحثت عن لفظ “لعل” وحده تجده قد ذُكر حوالي (٧٢) مرة، يكفي تأملها لتدرك أن كل ما يطلبه القرآن منك هدفه أن يساعدك في أن تنجح في الوفاء بالتزامات العقد، فتجد الكثير من الآيات المتضمنة للتكليفات الشرعية والقصص المروية مشفوعة بالمقصد من ذكر تلك الآيات، ومنها مثلا “لعلكم تتقون”، “لعلكم تفلحون”، “لعلكم تشكرون”، “لعلكم تذكرون”، “لعلكم تهتدون”، “لعلكم ترحمون”، “لعلكم تتفكرون”، “لعلكم تعقلون”… إلخ.
والمسلم الواعي يرى كل ذلك فيدرك أن نجاته تكمن في العمل وفق هدى القرآن الذي رعاه منذ أن كان مجرد نطفة إلى آخر لحظة في عمره، بل حتى إلى يوم القيامة، فلماذا سينحرف بنفسه إلى طريق الضلال ويراهن على السراب فينهي حياته بيده على خلاف ما أرشده القرآن بأن يجاهد في سبيل الله حتى يهديه سبحانه إلى سبل رضوانه والفوز بمعيِّته؟!
أنصت إلى قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت: 69].
(3)
حين يتدبر المسلم الواعي القرآن يجد فيه بسهولة كل أسلحته التي تمكنه من النجاح في مهمته، ومن أهمها سلاح التوحيد الذي يعصمه من الشرك، والسلاح المعرفي الذي يحصنه من الجهل الذي يعتبر عدوه الأول (ومن هنا كانت قيمة العلم والتعلم ورفعة قدر العلماء)، فيعرف أن العدو الأزلي له هو الشيطان –وإن كان كيده ضعيفا-، ويعلم أن الحياة الحقيقية ليست الدنيا (دار الممر) بل الآخرة (دار المقر)، كما يعرف أن تلك الدنيا دار الكَبَدِ والمشقة والفتن لا دار النعيم الخالد والراحة الكاملة، ويدرك أنه لن يكون فيها أحد يستحق أن يأمن له بإطلاق، فقد يأتيه الابتلاء من أقرب الناس إليه وأكثرهم نيلا لثقته ومحلا لآماله، كأبويه وأولاده وإخوانه وأزواجه، ناهيك عن الغرباء الذين قد يكون فيهم السلطان الغشوم، أو النظير الحاسد، أو الدنيء الحاقد، وكذلك الأخلاق الذميمة التي قد تطارده؛ كالترف المفسد، أو الهوى المتبع والشح المطاع… يدرك أن كل هؤلاء قد يؤتى من قبلهم فلا يأوي إلا لخالقه ولا يتوكل سوى عليه، فيفر إليه لا إلى البحر ليغرق نفسه فيه، أو إلى السم فيتناوله، لأن ذلك سيكون بمثابة اعتراف بهزيمته وبرسوبه في الامتحان فيعرض نفسه للعاقبة الأسوأ المستحقة، ومن ثم يختار -بلا تردد- أن يشحذ همته لمواجهة ابتلاءات الدنيا بعد أن يعلم جيدًا أنها ليست نزهة بل معركة حقيقية جائزتها قد تكون جنتين خالدتين، وعاقبة الخسارة فيها قد تكون جهنم وبئس المصير!
أنصت إلى قوله تعالى:
{الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 1-7).
(٤)
لا يريد الله أن يضيق على الناس أو يشق عليهم، بل هو سبحانه دائما يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر إلا مع من يتشددون ويعسرون على أنفسهم -وعلى الناس- فيكون جزاؤهم من جنس أعمالهم وما انطوت عليه قلوبهم من معاندة واستكبار.
فالله عز وجل لعلمه مشقة الحياة على الإنسان وصعوبة الامتحان، كان تدخله دومًا لصالح العباد، كما أسلفنا، ولذا تجده سبحانه يجعل كلمة التوحيد -التي يحدد على أساسها إسلام الإنسان من عدمه- يسيرة على اللسان، بل ومن الممكن أن ينطقها الإنسان بقلبه إن عجز عن نطقها باللسان، بينما الصلاة يقيمها الإنسان بقدر ما تيسر له، بحسب صحته ومرضه، وبقدر شعوره بالأمن من عدمه، وبحسب توافر الماء أو عدم توفره…، لكل حال حكم ميسر وفي المتناول، وهكذا صوم رمضان وإيتاء الزكاة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كلما سئل عن حكم فعل ما، قال للسائل: “افعل ولا حرج”!.
والمسلم الواعي يدرك هذا، ويعلم أن “الأمر إذا ضاق اتسع”، وأن دينه لا يكلفه بأمر فيه حرج ومشقة، بل إن الأحكام الشرعية هدفها مساعدة الإنسان وتيسير سبيله إلى النجاة والفوز في معركة الحياة، فبأي حجة سيقفز من سفينتها، ويستعجل موته قبل أوانه، وكأنه يتهم مولاه بأنه كلفه بما لا يطيق، وضيق عليه، حتى إنه لم ير نجاته إلا في وفاته.. في الفرار من الله بما حرّم لا إليه بما ألزم!
أنصت إلى قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (سورة الحج: 78).
(٥)
لقد خلق الله الإنسان وهو –سبحانه- يعلم أن اختبارات الحياة قد تتعقد أحيانًا بسبب مكائد شياطين الإنس والجن وجرائمهم، ونفوس البشر التي ينحرف بها الهوى عن الصراط المستقيم، فضلاً عن السنن التي تتعلق بإدارة الحياة كما يريدها المولى عز وجل، ولكنه جل شأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها (أي ما تطيقه)، ولم يكلفها إلا بما أتاها (من قدرة)، فكانت المسؤولية على قدر المقدرة، فإذا لقي الإنسان اختبارا أو بلاء فوق طاقته فإن الله سبحانه لا يطلب منه إلا بذل أقصى استطاعته وغاية وسعه، ولم يلزمه قط بأن يصل به سعيه إلى النتيجة المنشودة، فهو ليس مسؤولاً عنها إطلاقا، [أي كما نقول في مجال القانون أنه: “التزام ببذل عناية، لا بتحقيق نتيجة”]، فإذا تجبر المفسدون وتسلطوا، فإن عليه أن يقاومهم بيده (وفق الضوابط الشرعية المعلومة)، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه (أي يحتفظ في نفسه بكراهية الظلم والظالمين ويرفض تجاوزاتهم للحق بقلبه)، وإذا أكرهوه على فعل أو قول غير مشروع (حتى لو كان سبَّا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم) فإن له أن ينفذ طلبهم بلسانه لا بقلبه المطمئن بالإيمان، ولن يؤاخذه الله على ما أُكره عليه واضطر إليه؛ لأنه سبحانه سيحاسب الإنسان على اختياراته الحرة وحدها وسيعفو عما صدر عن إرادة مكبلة لا تملك من أمرها شيئا.
وإذا تأملت في منظومة الأحكام الشرعية ستجد قواعد حاكمة، قد تبيح للإنسان فعل بعض المحرمات للضرورة، حين يتجاوز الواقع قدرته على الالتزام بحكم شرعي ما، ولذا كانت قاعدة “عموم البلوى”، وقاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”، و”الضرر يزال”، و”الضرورة تقدر بقدرها”…، وظهر “فقه الضرورة”، “وفقه الاستطاعة”، و”فقه الموازنات”… استنادا إلى آيات محكمات يتلوها المسلم الواعي فيطمئن قلبه ويرتاح عقله، فيدعو الله بالتوفيق والسداد في سعيه ثم يفعل ما في وسعه مرتاح الضمير دون أن تخطر على ذهنه مطلقا فكرة الانتحار، ولماذا سينتحر وهو يبذل كل طاقته ويؤدي ما عليه حتى لو أحاطت به ظلمات ثلاث (مثل يونس في بطن الحوت حين لاذ بالاستغفار، وهو غاية وسعه في هذا المقام)، أو إذا سُدت عليه كافة أبواب النجاة (كالثلاثة الذين حبسوا في مغارة وقرروا أن يفعلوا ما يستطيعون فقط وهو ذكر كل منهم لعمل صالح فعله ابتغاء مرضاة الله عز وجل حتى فتح لهم سبحانه باب الخروج بقدرته، وفق ما جاء في الحديث النبوي الشريف)، فلن يكلف المسلم الواعي نفسه فوق طاقتها فينهار وتنهار إرادته وينهي حياته ثمنا للجهل واليأس!
أنصت إلى قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى} (سورة النجم: 39-41).