د. محمد علي دبور*
أساس هذا المقال هو الإجابة على هذا السؤال: لماذا رفض عمر بن الخطاب- رضي الله عنه – الصلاة في كنيسة القيامة عندما فتح القدس، بينما حوَّل محمد الفاتح كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد عندما فتح القسطنطينية…أليس ما فعله عمر كان يجب أن يكون مثالاً يُحتذى؟!!
فأقول مستعينًا بالله تعالى: إن مسألة تحويل الكنائس إلى مساجد في التاريخ الإسلامي لا تخضع للأهواء أو العشوائية، وإنما ترتبط ارتباطًا وثيقًا بطريقة فتح المدن، هل فُتحت صلحًا أم فُتحت عَنوةً؟
فما فُتح صلحًا فهو على ما صولح عليه أهله، فإن صولحوا على إبقاء معابدهم المتقدم بناؤها بأيديهم بقيت بأيديهم ولا يجوز انتزاعها منهم بعد ذلك من غير سبب يوجبه كنقضهم للعقد، وإن صولحوا على جواز أن يحدثوا كنيسة إذا احتاجوا إليها فينبغي الوفاء لهم بما صولحوا عليه “وما فتح صلحًا نوعان: أحدهما أن يصالحهم ولي الأمر على أن الأرض لهم ولنا الخراج عنها، فلهم إحداث ما يحتاجون فيها؛ لأن الدار لهم، والثاني: أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين ويؤدون الجزية إلينا، فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح معهم من إحداث ذلك وعمارته”.
وأما ما فُتح عَنْوةً فقد اختلف أهل العلم في جواز عقد الإمام الذمة لهم مع إبقاء معابدهم التي وجدت قبل الفتح بأيديهم، “فمنهم من قال: لا يجوز تركها بأيديهم، بل يملكها المسلمون يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه، ومنهم من قال: يجوز إقرارهم فيها إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر فيها، وكما أقر الخلفاء الراشدون الكفار على المساكن والمعابد التي كانت بأيديهم”. ومنهم من قال: “يخير الإمام بين الأمرين بحسب المصلحة، قال ابن تيمية: “وهذا قول الأكثرين، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، وعليه دلت سنه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حيث قسم نصف خيبر وترك نصفها لمصالح المسلمين”.
وبناءً على ما تقدم: فمن المعروف تاريخيًّا أن القدس فُتحت صلحًًا، والعهد الذي كتبه عمر لأهلها معروف ومشهور في تاريخنا الإسلامي (بالعهدة العمرية)، وكان من شروط هذا الصلح إبقاء المقدسات المسيحية على حالها، ولذلك امتنع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الصلاة في “كنيسة القيامة” لكي لا تتخذ مسجدًا من بعده.
أما القسطنطينية فقد فُتحت عَنْوَةً، ولذلك- وبناءً على ما قدمناه- يجوز للإمام أن يُحدث فيها ما يشاء من تغييرات حسب ما يراه من المصلحة.
ورغم ذلك يجب أن نعرف أن الفاتح رحمه الله لم يتعامل مع أهل القسطنطينية بهذا المبدأ وهذا القانون السابق ذكره، بل إنه عندما احتاج بعد الفتح إلى جامع ولم تكن الإمكانيات متوفرة لبناء هذا الجامع بعد طلب من المسيحيين في المدينة أن يشتري هذه “الكنيسة الخربة”، فلقد كانت فعلاً كنيسةً خربةً تردت أوضاعها وأحوالها خصوصًا بعد تردي أوضاع المدينة بشكل كامل في أواخر العصر البيزنطي، فوافق بابا الروم الأرثوذوكس على طلب الفاتح وتم شراء آيا صوفيا وتحويلها إلى مسجد، وهذا مثبت بالوثائق الموجودة في الأرشيف العثماني حتى اليوم، ويشهد التاريخ أن عملية الشراء لم تكن غصبًا ولم تمارس فيها أي نوع من أنواع السلطة الجائرة، بل إن الفاتح أصرّ على أن تبقى الرسومات الكنسية في داخل المبنى ولا تُزال احترامًا لمشاعر المسيحيين، بل قام بتغطيتها فقط كي تجوز الصلاة بالداخل.
وقد يظن البعض أن ما حدث في الأندلس من تحويل المساجد إلى كنائس هو رد فعل لتحويل الكنائس إلى مساجد، وهذا تصور خاطئ، خاصة ما يتعلق بمسجد قرطبة الكبير؛ لأن اتفاقية زوال الحكم الإسلامي عن الأندلس كانت تقضي صراحةً بوجوب الحفاظ على المقدسات الإسلامية كما هي، وقد وقع على هذه الوثيقة الملك فرناندو الثاني وإيزابيلا أول حكام الأندلس بعد الاحتلال الإسباني لها، ولكن وبعد قيام الثورة الأندلسية بعد سقوط الحكم الإسلامي في الأندلس بسنوات عدة بدأ الإسبان بالإخلال ببنود هذه الوثيقة شيئًا فشيئًا حتى تم تحويل مسجد قرطبة الكبير إلى كنيسة.
* أكاديمي وباحث في التاريخ والحضارة الإسلامي بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة، وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والمقال نقلا عن موقعه الشخصي على الإنترنت.