هذه الآية يكثر استعمالها على ألسنة الدعاء والعلماء حين يعمدون إلى الإنكار على بعض العادات أو السلوك المخالف للدين بين المسلمين، وهي لهذا آية ينفر من سماعها أولئك الذين يصدون عن سبيل الله، وأولئك الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
لكن الغريب الذي يلفت النظر هنا أن هذه الآية نزلت تدين سلوكاً كان اليهود يفعلونه، هذا السلوك إذا حُكِي اليوم في أمتنا فأغلب الناس سيرون أنه عمل عظيم يدل على التمسك بالدين وعلى تعظيم اليهود لشريعتهم!
مناسبة النزول
ومختصر الأمر أن اليهود في المدينة المنورة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم كان أكبر قبائلهم ثلاثاً؛ بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، ومع هذه الفرقة فيما بينهم اختلفت مصالحهم فاختلفت حساباتهم وتحالفاتهم السياسية، حتى وصل الأمر إلى أن بني قريظة كانت في حلف مع الأوس، وبني النضير كانت في حلف مع الخزرج، فإذا نشبت الحرب بين الأوس والخزرج (وهم وثنيون) تقاتلت كل قبيلة من اليهود مع حلفائهم، فإذا باليهودي يقتل اليهودي وينهب ماله ويخرب داره تقديماً لحسابات السياسة والحلف على صلة الدين والعقيدة.
حتى إذا وضعت الحرب أوزارها، سعى جميع اليهود في افتداء الأسرى منهم، فيسعى بنو النضير في افتداء أسرى بني قريظة والعكس كذلك، فكانت العرب تستغرب هذا وتُعَيِّرهم به، يقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ فيقول اليهود: إنا أُمِرنا في شريعتنا أن نفديهم وحُرِّم علينا قتالهم، فيقولون: فلم تقاتلونهم؟ فيقول اليهود: إنا نستحيي أن يُسْتَذَلَّ حلفاؤنا.
وروى أصحاب التفسير وقائع تدل على أن اليهود كانوا يبذلون المال وإن غلا وزاد في افتداء الأسرى منهم ولو من بلاد بعيدة، مع أنهم أبخل الناس بالإنفاق، ويرون أن التخلي عن الأسرى وقوع في الكفر(1).
وهكذا كان اليهود يقاتلون بعضهم نزولاً على مقتضى السياسة وأحلافها، ويفدون بعضهم نزولاً على مقتضى الدين والعقيدة، وهنا نزل القرآن الكريم يُشَنِّع عليهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ويتوعدهم بالعذاب بألفاظ قوية رهيبة: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ {84} ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {85}) (البقرة).
رؤية عصرية
لو غضضنا الطرف مؤقتاً عن هذا التشنيع القرآني الشديد، واستعملنا ثقافتنا المعاصرة في تقييم هذا المشهد، فإن أغلب المحللين سيرى أن هذا من نبل الأخلاق وشدة الإيمان، إذ كيف تسمح نفس المرء أن يدفع من أمواله ليفتدي أسيراً كان هو نفسه سبباً في أسره، وربما لو اختلفت الحال قليلاً لكان قد قتله فعلاً، ثم انظر كيف ينسى القوم ما كان بينهم من القتال ليتعاونوا معاً في فداء أسراهم!
لو تصورنا مثلاً أن دولتين من الدول الإسلامية نشبت بينهما الحرب، أو حتى لو عدنا بالذاكرة إلى ما قبل ثلاثين عاماً وتصورنا أن الحرب قد نشبت بين المعسكرين الشرقي والغربي، واضطرت دولتان مسلمتان تحت ضغط السياسة أن تتقاتلا، ثم إذا انتهت الحرب انطلقت هاتان الدولتان في مباحثات دبلوماسية محمومة وبميزانية مالية مفتوحة لاستنقاذ الأسرى المسلمين، إذا حصل هذا فكيف سيكون تقييم هذا الأمر؟! سيُكتب في إنجازات هاتين الدولتين وسيُبَرَّر لهما ذنب دخول الحرب بمقتضى السياسة والحلف وتكتب فيهما عرائض التبرير بمعاذير الاضطرار والإكراه والتأويل!
لقد ابتعدنا عن المثال كثيراً، إننا الآن في زمن يستبيح فيه بعضنا بعضاً بلا دين ولا حتى قانون وضعي، بل أكثر البلاد المسلمة الآن ترتكب جرائم تسليم المسلمين لعدوهم وهم يعلمون ما سيلقونه من التعذيب الشديد والقتل، والأمثلة معروفة ومريرة، فإذا كان هذا التشنيع الإلهي الشديد على من ترك شيئاً من شريعته وتمسك بشيء، فكيف يجب أن يقال في مثل هؤلاء الذين تركوا الكتاب مطلقاً فقتلوا وأسروا وسَلَّموا؟!
ورد عن عمر رضي الله عنه حين قرأ هذه الآية أنه قال: «إن بني إسرائيل قد مضوا، وإنكم يا أهل الإسلام تُعنون بهذا الحديث».
لقد كانت هذه الآية واحدة من الأعمدة التي بُنِيَت عليها أحكام التحالف بين المسلمين وغير المسلمين، وأحكام القتال بين المسلمين إذا وقع بينهم، وأحكام التعامل في قتال البغاة والغلاة من المسلمين وأسراهم وجرحاهم، والاستعانة عليهم بعدو من غير المسلمين، إلى آخر هذه الأحكام المبسوطة في كتب الفقه.
ولقد كان تعبير الآية عن القضية تعبيراً لطيفاً عالي المعنى، توقف عنده المفسرون طويلاً، يقول تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ {84} ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ).
قال أهل التفسير: «نفسك يا ابن آدم أهل ملتك»(2)، وقالوا: «جعل غيرَ الرجل نفسَه إذا اتصل به أصلاً ودينا»(3)، وقالوا: «فإن قيل: وهل يسفك أحدٌ دمه، ويخرج نفسه من داره؟ قيل له: لما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحداً، وكانوا في الأمم كالشخص الواحد، جعل قتل بعضهم لبعض وإخراج بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها»، وبعض القراءات جاءت بصيغة المبالغة كقراءة «تُسَفِّكون دماءكم» وهي زيادة في التقبيح والتشنيع(4).
وتوقف بعض المفسرين عند هذه الآية مع معنى عقوبة النفي، فقال: «وفيها تحريم إخراج الإنسان من دياره وأرضه وتغريبه بغير حق، والإخراج من البلد عقوبة شرعية يجب ألا تنزل إلا بسبب شرعي، قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ) (المائدة: 33)؛ فجعل الله سبب الإخراج من البلد محاربة الله ورسوله، وإنزال العقوبة لمجرد مخالفة المحكوم للحاكم في رأيه –الذي لا يخرج عن حد النقل والعقل- غير جائز.
ولما جعل الله النفي عقوبة دلَّ هذا على أن بقاء الإنسان في بلده حق مشروع له، يجب أن يحفظ ويصان، ومن واجبات ولي الأمر حفظه، وليس نزعه، وعقوبة الإخراج من الأرض والبلد عقوبة شديدة يقر بقسوتها جميع الشرائع المؤمنة والكافرة، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) (إبراهيم: 13)، فسمّى الله الإخراج من الأرض ظلماً.
وينبغي للحاكم الذي يريد إخراج أحد من بلده أن يعرف قدر أثر الإخراج على صاحبه؛ فهو ظلم شديد، ولا ينبغي أن ينزل إلا في حال العجز عن كف الأذى والردع إلا به، ولا بدَّ من معرفة قدر الفساد اللازم من إخراجه عليه وعلى ذريته من بعده، ومقارنته بالسبب الموجب لإخراجه، والحكم في ذلك لتقدير الله في كتابة وسُنة نبيه بنظر عالم عارف، لا بالهوى والتشهي»(5).
__________________________________________________________
(1) انظر: تفسير ابن كثير، 1/478 (ط1 مؤسسة قرطبة، 2000م)؛ موسوعة التفسير بالمأثور، 2/528 وما بعدها (ط1 دار ابن حزم، 2017م).
(2) تفسير الطبري، 2/300، (ط1 مؤسسة الرسالة، 2000م).
(3) حاشية الطيبي على الزمخشري (فتوح الغيب)، 2/559 (ط1، جائزة دبي للقرآن الكريم، 2013م)، وما في المتن عبارة الزمخشري.
(4) تفسير القرطبي، 2/236 (ط1 مؤسسة الرسالة، 2006م).
(5) الطريفي، التفسير والبيان، 1/81، 82 (ط1 دار المنهاج، 1438هـ).