يخرج لنا بين فترة وأخرى بعض الكتَّاب والمثقفين العلمانيين لينظِّروا لنا رؤاهم حول تحليل الأوضاع، ومنها ظاهرة الاستبداد العربي، ثم كالعادة يُلقون بتبعات تلك الظاهرة على “الإسلام السياسي”، وبدلاً من الانتقال لما يسمونه بالمشروع النهضوي العربي الذي سبق وأن فشل إبان منتصف القرن الماضي، وتكبدت الأمة العربية نتائج كارثية خلَّفت نظاماً انقلابياً استبدادياً، ومع ذلك يعلِّقون أسباب انهزامهم وفشل مشروعهم على ظاهرة “الإسلام السياسي”.
وعادة ما يكون ضربهم للأمثال انتقائياً من بلد دون آخر، فالبلدان العربية التي يتحكم فيها العسكر والاستبداد العربي أياً كان موقعها على الخريطة الجغرافية العربية هو المعسكر الذي وأد حركة الشعوب العربية نحو التحرر والانفتاح والانطلاق من أجل مشروع تنموي ديمقراطي، وقاموا بمواجهته بالحديد والنار والسجون، وما زالوا ينفقون المليارات على ذلك، ولم يحدد هؤلاء المثقفون العرب لماذا هم مستمرون في دعمهم انقلاب العسكر في مصر، أو دعم حفتر في ليبيا الذي مارس الإبادة الجماعية في بنغازي وترهونة، وحاصر طرابلس أكثر من سنة وقطع عنها إمدادات المياه والغذاء؟!
كما أنهم توقفوا عن نقد الدول الاستبدادية والأنظمة العسكرية المتصلة بمحور الثورات في إرهابها ودورها في التدخلات بليبيا واليمن وسورية وتونس، ومحاولة ترجيح الحكم العسكري على الحكم المدني في السودان، وكذلك دعم الأسد في سورية، والمجلس الانتقالي وطارق صالح في اليمن، وبقايا النظام البائد في تونس.
يريد بعض المثقفين العرب أن يمضوا تحت جبة العسكر والاستبداد من أجل توهمهم أن مشروع النهضة العربي سيكون من وراء هذه الأنظمة الاستبدادية.
لقد قامت ثورات الشعوب العربية في دول حكمها العسكر والاستبداديون عقوداً من الزمن حتى ضاقت الأرض بما رحبت بالناس؛ فكانت ثورات عفوية، لكنها أقامت حكماً مدنياً ديمقراطياً، واحتكمت للصناديق الانتخابية، وعندما نسجت دساتير مدنية توسّع الحريات وترسّخ العدالة وتمضي للتنمية رفضها بعض المثقفين العرب وتحالفوا مع العسكر والمستبدين؛ ليتم الانقلاب في مصر، والانقلاب على الثورة في اليمن وليبيا، وخذلان الشعب السوري في ثورته.
وهكذا ليدعموا عودة العسكر والاستبداد وإقصاء “الإسلام السياسي”، بل وسايروا تلك الأنظمة الاستبدادية والعسكرية في تصنيف “الإسلام السياسي” بـ”الإرهاب” ظلماً وعدواناً، هكذا اعتقاداً منهم بأن ذلك سينهي مشروع الشعوب لتحرير نفسها لأنها اختارت طريق الحرية والتنمية عبر الإسلاميين والشعوب العربية.
ومع الهزائم الأخيرة لمعسكر الاستبداد العربي والمضاد لحرية الشعوب ونهضتها في ليبيا والسودان وتونس واليمن، تطلق بعض التسجيلات الصوتية لما سمي بـ”خيمة القذافي”؛ أي منذ ما يقارب العشرين عاماً إلى الوراء.
ربما يجدون ما يقيمون من أجله فرصة يلجؤون إليها لوصم مخالفيهم بالإرهاب والخيانة وغيرها من الاتهامات التي لا تصمد أمام منطق العقل والتاريخ، فضلاً عن صمودها أمام منصة القانون.
وهكذا دأب هؤلاء المثقفون على استغلال كل فرصة لدعم التدخل الخارجي في بلدانهم ما دام ذلك سيساعد في إقصاء منافسيهم ممن ينتسبون إلى ما يسمى بـ”الإسلام السياسي”، في حالة يرثى لها من التقييم المتطرف وعدم العدل والبعد عن الإنصاف المنهجي، ويواجه هؤلاء المثقفون اليوم تحديات تراجع منطق الإرهاب الفكري والتخوين ومسايرة الإعلام الدكتاتوري وإعلام الفتنة؛ إذ إن وعي الشعوب في ارتقاء وصعود، وإن الشعوب العربية والخليجية قد استبان لها -بعد عقد من أول محاولة لحكم مدني ضد الاستبداد الماضوي- أن مسار الثورة المضادة وحكم الاستبداد والانقلابات يحوي تحت جبته مجموعة من المثقفين العرب الذين أصبحوا من الماضي، وأن هذه الظاهرة لا شك في طريقها إلى الاندثار.