لم يعد النقاش الفكري يستقيم اليوم عند العديد من “المثقفين” دون توجيه سهام النقد المنطوية على الجهل المركب للتراث الذي أصبحنا نجده دائماً في قفص الاتهام مُوجهة له كل التهم المرتبطة بمظاهر التخلف في العالم العربي الإسلامي، ولعل علة الأزمة تكمن في عكس ما يدعي “المثقف الجديد” كتجسيد للانحراف والتحريف الذي همّ التراث خصوصاً الإسلامي منه الذي به نعرف ذواتنا وقوتنا ونستشرف المستقبل، وهذا الأمر ينسحب على كل الحضارات والأمم بل يعد شرطًا ومبدأً لاستمرارها وتطورها بشكلٍ صحيح.
تتجلى أهمية التراث خصوصاً اللامادي الديني في كونه منبع الإلهام الذي يسمح بإفراز نماذج مواكبة للتطور بما يتوافق مع الشخصية الذاتية لكل أمة، ومن ثم يكون ليس من السوي عدّ التراث معالم وصروحا وآثارا فحسب، بل هو كل ما يميز أمة أو شعبا من تعابير غير مادية. يرى الكثير من الأنثروبولوجيين أن التراث تراكم لِخبرة الإنسان في سياق ارتباطه مع محيطه ارتباط يضم حتى الإنسان الآخر سواء كان فردا أو جماعة، أي التراث كنِتاج لامتداد تاريخ الإنسان في تجارب ماضيه وعيشه في حاضره وإطلالته على مستقبله بحيث يكون السند الروحي للأمم ذلك أنها تستمد جذورها وأصالتها منه لتضيف له لبنات أخرى في مسيرتها الحضارية.
يستحضر الحديث عن التراث بشكل موضوعي مواضيع أخرى تقترن به معرفياً بينما نجد الهوية هي الأكثر تداخلاً مع التراث، ولعل هذا ما يبدو لكل باحث من خلال الأهمية البالغة التي يحوزها في الحفاظ عليها، فهو المصدر والذاكرة الحية للمجتمع المصدر لأن الأفراد والجماعات تستوحي منه الثقافي والاجتماعي والفني والمعرفي. وهو ذاكرة حية لأنه امتداد الماضي في الراهن مهما كانت حدة التغير والتطور، تقول الباحثة كريستين تمبل صاحبة كتاب المخ البشري: مدخل إلى دراسة السيكولوجية والسلوك “..الذاكرة هي التي تمكننا من فهم العالم من خلال ربطنا بين خبراتنا الراهنة ومعارفنا السابقة عن العالم وكيف يعمل” ما يخص الذاكرة هنا حسب كريستين ينطبق على التراث الذي يعمل على حفظ الهوية ويسمح باستمرار الإبداع والمواكبة في ظل قوة حضور المرجع (التراث اللامادي)، تصبح أي محاولة تتوخى الطمس أو التقليل منه سواء تعلق الأمر بأمة أو جماعة ما بمثابة كبح لِجماح الإبداع والمعرفة لها وإن تم ذلك بنجاح يتم القضاء على نموذج إنساني وإدماجه في صيغة موحدة كما نلاحظ اليوم الاتجاه نحو إخضاع البشرية لنظام واحد أو تاريخية واحد كما يذهب برهان غليون.
أضحى الكثير منذ مدة يوجه سهام النقد الحاد للتراث الإسلامي باعتباره علة الأزمة التي يعيشها العالم الإسلامي، في خرق سافر لمعايير التحليل الفكري الرصين متأثرين بما ينتجه الغرب من أبحاث تدعم النيوليبرالية وتدعو لإحداث قطيعة مع كل الإرث الماضوي باعتباره أمراً متجاوزاً، وهنا مكن المشكلة ومن جهة أخرى استفحال الفهم الخاطئ لدى الكثير من “المثقفين” للتراث من خلال ربطه بالماضوية وهذا ما لا يمت للصواب بصلة، ذلك أنهم غير مدركين لأهمية التراث فكل أمة أو جماعة يتضمن تراثها نسبة من المعقول تتفاوت النسب بين الأمم والجماعات ويبقى عدم نفي أو نسف تراث جماعة ما على حساب الأخرى أهم ما يستوجب الحرص عليه، بيد أنها عملية صعبة جدا نتلمس ذلك مع ما قال الأنثروبولوجي كلود ليفي ستراوش” كل ما هو إيجابي يتجمع في داخل الجماعة الإثنية وكل ما هو سلبي فهو خارج عنها” ما تقدم به ستراوش هنا يفيد كثيراً في فهم ما يحدث اليوم من عمليات التوحيد القسري التي تميز أصحاب النزعة الإثنية منذ قرون والتي ظلت ممتدة عند بعض الجماعات التي احتكرت المعرفة والعلوم واستطاعت أن تؤثر في “مثقفي” جماعات خارجة عنها بتشبيعها بأنماط وطرق التفكير التي تناسبها بل والأخطر أنها تجعلها هي من تنتقد تراثها الذي يعتبر آلية لحفظ الهوية (العمود الفقري للأمم).
ترجع الأشكال الأولية للقطيعة مع التراث التي سوف تتطور فيما بعد إلى تبخيسه مع استقلال البلدان العربية حيث ارتفع صوت المتأثرين بالفكر التجديدي والتنويري من سياسيين ومفكرين.. المنبهرين بالنموذج الإصلاحي النهضوي الغربي ولعل هذا هو أصل المشكلة، يقول محمد عزيز الحبابي أول مفكر عربي تم ترشيحه لجائزة نوبل للآدب: “إن الخطأ الذي نقع فيه هو عندما نأخذ بنماذج التغيير والتنمية الخارجة عن ثقافتنا ونسقطها على بنياتنا الثقافية والاجتماعية والمجالية”، بعد تأثر مفكرو ما بعد الاستقلال بما جاد به الفكر الغربي الذي أحدث قطيعة مع الإرث الماضوي في سياق متباين مع ما حدث ويحدث في العالم الإسلامي أضحت معظم الإنتاجات الفكرية من كتب ومقالات ودراسات بحثية كلها تصب في نقد التراث نقداً لا ينطوي على رصانة وبراءة علمية، مقابل ذلك تم تسويق ترسانة مفاهيم مستوردة لم تنفع في أي إصلاح أو تغيير لأنها خارجة عن البنى الثقافية والاجتماعية لأمة لها خصوصياتها وتنظيماتها بل جعلت الأمر أكثر تركيبية وتعقيدا.
كما تم تمرير نقد التراث والأخذ بنماذج الآخر المختلف إلى الطلاب والباحثين في الثمانينات من القرن الماضي ليتكرس ذلك في الوعي الجيلي باعتبارهما الوسيلتين المميزتين لأي تغيير أو إصلاح لكن ما حدث هو أنه انتقلنا من النقد إلى التبخيس وفق سيرورة تطور تهم طمس المرجع الإسلامي والزج به في غياهب الاندثار والعدم الأمر الذي مكن الكثير من المثقفين أن يحظو بالتميُّز الفكري وأسهمت عملية تبخيس التراث الإسلامي من طرف المثقف الراهن استكمالا لعملية التأثر والتأثير التي بدأت مع استقلال بلدان العالم الإسلامي في دفع الكثير بالقبول بما هو خارجي عن ثقافتهم ورفض كل ما يمثل أصلهم الذي من دونه لن يستشرفوا المستقبل بالشكل السليم، وكذلك لن يكون من السهل لهم تحديد هويتهم بعد العبثية التي سقطوا فيها كما هو الحال الآن في مجتمعاتنا. لا شك في أن هذا المد من التزييف والتبخيس الذي لحق تراث الأمة الإسلامية بفعل وسائل الإعلام وكذا الأبحاث والإنتاجات والنظريات.. لم يخل من تداعيات أهمها:
التسويق للعالم أن المكتسبات التاريخية للأمة الإسلامية لا تعدو أن تكون إما ذات طابع عنفي أو تقليدي أو ميتافيزيقي. وفي نفس الوقت تتم عملية نشر وتمرير نماذج في شتى المجالات تنهل من مبادئ النيوليبرالية، التي ترمي لِصب الأفراد في قالب واحد بغية السيطرة والهيمنة الكلية، مما أفرز انزياح هوياتي أدى إلى فقدان البوصلة التي تحدد طريقنا فأضحى التخلف والعبث سمتنا المميزة على جميع الأصعدة.
إن التراث دعامة أساسية للأمم ومكون رئيس للهوية فبدون حضوره ضمن برامج التنشئة الاجتماعية والتعليمة بالشكل الذي يضمن الاعتزاز به لا يمكننا الحفاظ على ذواتنا وهويتنا، وعندما نقول تراث لا نقصد به كل ما يقترن بالإرث الماضوي للتفاعل الإنساني مع محيطه بل نقصد تلك التراكمات الإيجابية والأساسية خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالأمة الإسلامية فتراثها الرشيد هو الذي ميزها كحضارة معرفية وعلمية التي بها تستطيع استشراف المستقبل في حالة قوة واستقرار كما حدث ويحدث مع جميع المجتمعات التي اتخذت من تراثها المعقول منهلاً للإصلاح والتقدم.
صفوة القول أن الأمة التي تفقد تراثها تشبه الشخص الذي فقد ذاكرته لا يستطيع أن يستدل على بيته؛ فكيف يمكن أن يصنع مستقبلاً له؟
إن الكل اليوم مُطالَب بإيجاد جواب لهذا الإشكال الذي أجده يخصنا بعد انسلاخنا من التراث وأصبحنا نحن من ننظر إليه باحتقار وتنقيص بفعل ما تم ترويجه عنه بما لا يمته بأي صلة حق، والانصهار الكلي في المنظومة الجديدة التي توحد العالم بطريقة غير مباشرة وترمي للقضاء على التعدد من خلال إدماج الأمم في نظام واحد يخضع لسيطرتها وتدبيرها الاقتصادي بالدرجة الأولى والسياسي وكذلك السوسيوثقافي.
_______________________________________
1- العرق والتاريخ كلود، ليفي ستراوش.
2- الأنثروبولوجية البنيوية، كلود ليفي ستراوش.
3- المخ البشري: مدخل لدراسة السيكولوجية والسلوك، كريستين تمبل.
4- الشخصانية الإسلامية، محمد عزيز لحبابي.
5- دراسة بحثية للتراث والمجتمع، (فريق بحثي).
المصدر: مدونات الجزيرة.