تعد مشكلة التجانس الاجتماعي إحدى أكبر المشكلات التي تواجه المجتمعات، خاصة إذا أدت إلى العنصرية والعصبية، ويقصد بالتجانس الاجتماعي التوافق والانسجام بين أفراد المجتمع بسبب وجود مصلحة واحدة تجمع الأطراف كلها، أو وجود فكرة توحد الجهود، فيعمل الجميع بيد واحدة وجهد واحد، ويمكن أن يكون المجتمع متعدد الأعراق والثقافات ولكنه متجانس، بمعنى أنهم يتوافقون ولا يتصادمون، ويتمتع كلٌّ منهم بمساحة من الحرية.
يمثل عدم التجانس الاجتماعي عائقاً أمام استقرار الدولة، وإن حققت تقدماً على المستوى الاقتصادي، فسوف تظل مشكلة الحفاظ على التجانس العرقي قائمة، وإذا كانت غالبية الأعراق مستعدة لبذل تضحيات من أجل عدم إثارة التوتر، يظل في كل عرق عدد من المتطرفين الذين يريدون أن يعملوا من أجل عِرقهم فقط، ولو أدى ذلك للصدام والعنف، وتفضي هذه المشكلات الاجتماعية بدورها إلى الصراع السياسي أو الدموي، فَتَحُول بين الدولة وتحقيق الاستقرار؛ لأن تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي يتمثل بمدى التجانس والتآزر الذي يميز مجتمع الدولة.
نتعرض هنا لمقارنة بين المجتمع الغربي، ونأخذ أمريكا مثالاً، والمجتمع العربي والإسلامي، من خلال مدى تجانس وتضافر المجتمع ودوره في قيام وثبات الحضارة.
ثمة أسطورة إعلامية تقول: إن الولايات المتحدة تمكنت من إنهاء مشكلة العنصرية، لكن الأحداث الأخيرة في أمريكا تثبت عكس ذلك؛ حيث كشفت حادثة مقتل «جورج فلويد» عن أزمة تعانيها الولايات المتحدة منذ قرون، وأنها لم تنجح بعد في تجاوز التاريخ المرير للعبودية والتمييز العنصري في الممارسة العملية والثقافة السائدة في مؤسسات تطبيق القانون.
ويصعب تحديد التقسيم العرقي الدقيق للولايات المتحدة الأمريكية؛ نظراً لأن غالبية الأمريكيين ينتمون إلى مجموعة متنوعة من الخلفيات العرقية، فهناك السكان الأصليون أو «الهنود الأمريكيون»؛ وهم الأفراد الذين كان أسلافهم السكان الأوائل للأرض، ثم جاءت الأجناس الأخرى بالهجرة إلى الولايات المتحدة -بعد اكتشافها من قبل الأوروبيين- من إنجلترا ودول أوروبية أخرى بشكل رئيس، ثم من أمريكا اللاتينية وآسيا، وكانت الدول الخمس التي ساهمت بأكبر عدد من المهاجرين إلى أمريكا، هي: المكسيك والهند والصين والفلبين وكوبا.
ونظراً لهذا التنوع من الناحية العرقية، اختلفت بطبيعة الحال أشكال البشر وألوانهم، وتنوعت المعتقدات والممارسات الدينية واللغات واللهجات، ومع عدم وجود مظلة تنصهر تحتها هذه الأعراق المتباينة حدث عدم الاستقرار الاجتماعي؛ فنجد حالة من التنافر بين أفراد المجتمع، قد تصل إلى حد ارتكاب الجرائم بسبب اختلاف العِرق.
وتحظى أمريكا بتاريخ عريض من العنصرية نتيجة عدم التجانس الاجتماعي، من خلال تعرض الأمريكيين من الأصل الأفريقي للعنصرية في مختلف مناحي الحياة؛ مثل دخول المدارس والجامعات، وعند التقدم للوظائف والترقية في العمل، وعند محاولة استئجار أو شراء مسكن، وعند الذهاب إلى الطبيب أو العيادة الصحية، وعند محاولة التصويت.. إلخ، ورغم تبني القانون الذي يُجرّم التمييز العنصري، فإن السود في الولايات المتحدة ظلوا في وضع اجتماعي متدنٍّ بالنظر إلى أوضاعهم الاجتماعية في أسفل الهرم وضعف التأهيل.
ولا تقتصر مشكلات مجتمع السود الذي يشكل حوالي 13% من سكان الولايات المتحدة على التهميش والعنصرية فقط، وإنما يعاني من عدة ظواهر أيضاً، أبرزها الفقر وعدم الأمان، إذ يعيش 24.7% من السود تحت خط الفقر.
كما أن الاستهداف الممنهج في تعامل الشرطة مع السود يجعلهم غير آمنين في بلدهم؛ فوفقاً لاستبيان «التمييز في أمريكا» الذي أجرته مؤسسة «الإذاعة الوطنية العامة»، خلال عام 2017م، قتلت الشرطة الأمريكية 1147 أمريكياً، من بينهم 25% من الأمريكيين من أصل أفريقي، حتى إن آباء الأطفال السود لا يثقون أن الشرطة لن تتعرض لأولادهم بالعنف، وتحاول هذه العائلات تجنب الاحتكاك بين أولادها والشرطة، مما يفضح هشاشة المجتمع في تلك البلاد، وعجز السلطة أن تسد الثغرات الراسخة في بنية مجتمعها.
هذا الوضع جعل أمريكا مهددة بالاحتجاجات وأحداث العنف الناتجة عن العنصرية، ولا تكاد حادثة تهدأ حتى تثور أخرى، وما خفي كان أعظم، ففي عام 1991م ضجت الولايات المتحدة بالاحتجاجات وأعمال الشغب بعد تبرئة المحاكم الأمريكية لضباط شرطة لوس أنجلوس الذين أبرحوا مواطناً أسود ضرباً دون وجه حق، وفي ولاية فلوريدا، عام 1996م، قامت احتجاجات واسعة إثر مقتل شاب أسود غير مسلح على يد الشرطة الأمريكية، وفي عام 2016م أثار حادث مقتل رجل أسود على يد الشرطة الأمريكية غضباً شعبياً دفع عشرات إلى التجمهر، وما لبث أن تطور الأمر إلى أحداث شغب وعنف وإحراق للمتاجر والمحلات.
وكان آخرها في 25 مايو الماضي، عندما لفظ «جورج فلويد» -المواطن الأسود- آخر أنفاسه وهو يصيح: «لا أستطيع التنفس»، وفوق عنقه ركبة شرطي أبيض، وما هي إلا ساعات حتى انفجرت شوارع العديد من الولايات الأمريكية بالغاضبين، وارتجت أركان الدولة المتقدمة بفعل العنصرية؛ مما أدى إلى تخبط الإدارة الأمريكية وتصاعد الصراع بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وزيادة الخلافات بين «ترمب» والكونجرس.
وفي حين يتصاعد هذا الخطاب العنصري ضد ذوي الأصول الأفريقية في الولايات المتحدة، يتراجع بريق هذا المجتمع الذي كان جاذباً ومصدراً لآمال وإلهام كثيرين حول العالم، ويزداد الغموض حول شكل المستقبل، وحول قدرة هذا المجتمع الذي يملك الكثير من عوامل القوة والحيوية، ولكنه لا يستطيع أن يقدم نموذج القيادة الخلاقة، بسبب عدم التجانس الاجتماعي.
دعائم الحضارة الإسلامية
وهنا نتطرق لثبات الحضارة الإسلامية ورسوخها، النابع من التجانس الاجتماعي للعرب من جهة -وهم نواة انتشار الإسلام، ومن تعاليم الدين الإسلامي التي صهرت الأعراق تحت مظلة واحدة، من جهة أخرى.
تميز المجتمع العربي بعدة ثوابت ساهمت في جعله أمة واحدة، وهي البعد الجغرافي واللسان الواحد والمظلة الدينية الواحدة؛ وهو ما أنتج مجتمعاً عربياً متكاملاً اجتماعياً وسياسياً، فالبيئة العربية كانت -وما زالت- بها عرقيات أخرى، ولكن ذلك لم يقف حائلاً أمام التقائهم جميعاً ببعض، خاصة إذا كان الجميع سكان وطن واحد، فالمهم هو إحساس الجميع بأن لهم مصيراً واحداً في ظل ثقافة واحدة، وفي ظل التجانس والتوافق في المعايشة وتبادل المصالح والتعاون المثمر البنَّاء، وهذه القناعات كانت أساساً راسخاً لبناء المجتمع القوي، والإنسان المعافى جسماً وعقلاً ونفساً بغض النظر عن عرقه.
ولا ريب أن حقيقة وحدة المنشأ الحضاري والتاريخي (اجتماعياً وسياسياً)، ووحدة المصير، من عوامل ثبات المجتمع العربي، لكن ما كان ينقص العرب هو الفكرة الخلاقة، التي توحِّد قلوبهم وعقولهم بعد أن وحَّدت اللغة ألسنتهم، وهكذا كان الإسلام؛ حيث اهتم بوحدة المجتمع كنواة لقيام الحضارة، وقد وضح ذلك في إعلان وحدة النوع الإنساني، رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13)، وتم ترسيخ قيم الحق والخير والعدل والمساواة بين الناس جميعاً، دون النظر إلى ألوانهم أو أجناسهم، فلا يؤمن بنظرية التفوق العنصري أو الاستعلاء الجنسي.
وبعد إعلان وحدة النوع الإنساني لتثبيت المجتمع، وحَّدت الحضارة الإسلامية مصدر الأخلاق، وهو الوحي، لتكون قيماً ثابتة تصلح لكل إنسان بصرف النظر عن جنسه وزمانه ومكانه ونوعه، وذلك بعكس مصدر الأخلاق النظرية التي هي نتاج العقل البشري التي تتغير من مجتمع لآخر، وهكذا تُقدِّم الحضارة الإسلامية نموذجاً فريداً في تثبيت قاعدة المجتمع وصهره تحت مظلة واحدة.
وبعد انصهار الأعراق والأجناس المختلفة تحت مظلة الإسلام، لم ينسَ الإسلام حقوق الأقليات غير المسلمة ليضمن استقرار المجتمع، فكفل لهم حرية الاعتقاد، وسنَّ لهم ما يحافظ على حياتهم، وحذَّر من ظلمهم أو انتقاص حقوقهم، وحرَّم أخذ أموالهم أو الاستيلاء عليها بغير وجه حق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا من ظَلمَ معاهَداً، أو انتقصَه أو كلَّفَه فوقَ طاقتِه أو أخذَ منهُ شيئاً بغيرِ طيبِ نفسٍ، فأنا خَصمهُ يومَ القيامةِ»، وهذه أسس لم تعرفها البشرية قبل الإسلام، واليوم تتطلع إلى تحقيقها المجتمعات الحديثة، فلا تكاد تصل إليها بسبب العصبية والعنصرية.
هذه الخصائص الاجتماعية التي تتفرد بها الحضارة الإسلامية تكتسب طابع الديمومة والاستمرار، وتضفي على الحضارة رسوخاً وثباتاً حتى في فترات الضعف، وهذا هو سر قوة المجتمعات الإسلامية بالمقارنة بالمجتمعات الغربية.
وعلى الجانبين، هنا مجتمع يدعي الحضارة وما هو بمتحضر؛ يبلغ أقصى درجات التقدم الاقتصادي، ولكنه مهدد دائماً بالانهيار بسبب الصراعات العنصرية، وهنا مجتمع راسخ قوي مترابط ذو حضارة عريقة، لا ينقصه سوى إدراك قوته، وأن التوافق والتجانس والالتقاء ضروري لبقائه، في زمن لا مكان فيه للضعفاء والمتفرقين الذين تشق صفوفهم النعرات العنصرية والعرقية، فهل يدرك المجتمع العربي الإسلامي صلابة تكوينه التي تؤهله لقيادة الأمم بجدارة؛ وينطلق ليبني حضارته من جديد؟!