إسطنبول التي تبلغ نسبة سكانها من المسلمين الآن نحو 97% كانت على مدار معظم التاريخ العثماني يسكنها نحو 58% من المسلمين و42% من المسيحيين واليهود.
ولإيماني بأن الآثار أصدق إنباءً من الكتب، شريطة أن يجد الأثر عيناً واعية تنقل معناه للناس، وتجعله حجة دامغة على ما قد يعتري التاريخ من تشويه وتزوير؛ فسآخذكم في جولة في آثار إسطنبول، تتعرفون من خلالها على تفرد هذه المدينة دون سائر مدن أوروبا باحتضانها لكل من لجأ إليها من الأديان والأعراق.
وحتى لا تتسع بنا دائرة البحث في إسطنبول العظيمة، سنقف فقط عند حي واحد من أحيائها وهو “حي بلاط” المشهور باسم “حي اليهود”، الذي اتخذ هذا الاسم لاستقباله لليهود الفارين من محاكم التفتيش في إسبانيا بعد طرد العرب والمسلمين منها.
هذا الحي العريق يطل على الجهة الشرقية من القرن الذهبي ضمن منطقة فاتح، ويمتد من سفح تلة “ملا عشقي” أحد التلال السبع لإسطنبول بمحاذاة الشارع الموازي والمطل مباشرة على القرن الذهبي، ويستمر صعودا حتى قمة التل، ويقع بين منطقتي “أيوان سراي” و”فنار” التاريخيتين، إلى الغرب من منطقة “إمينونو”.
نبدأ جولتنا سيرا على الأقدام في الحي من بدايته في السفح وعلى الطريق المطل على القرن الذهبي مباشرة، حيث تقع “كنيسة القديس ستيفان البلغارية” التي أُنشئت من قبل الأقلية البلغارية في القرن التاسع عشر؛ لرغبتهم في إنشاء كنيسة مستقلة عن البطرياركية الأرثوذوكسية اليونانية.
ومن السفح نستمر في الصعود؛ عن يمينك ويسارك مبانٍ عتيقة لا يتجاوز ارتفاعها ثلاثة طوابق، وعرض البيت أحيانا لا يتجاوز ستة أمتار، متراصة بألوانها المتعددة الزاهية لتشكل لوحة فنية بديعة، وبينها طرق ضيقة متعرجة مرصوفة بالبلاط البازلت اللامع من نظافته، وصعودا بين دروبها الضيقة، تلمح عينك نجمة داود ما زالت قائمة على جدران بعض البيوت.
ومع شعور غامر بأنك تستنشق من عبق التاريخ، واستمرارا في الصعود في الشارع الذي يكاد يكون متعامدا على واجهة الكنيسة البلغارية، تجد بناءً شامخاً ضخماً بواجهة من الحجر الوردي بتشكيلاته البديعة وواجهاته المميزة، اللوحة الإرشادية بجوار هذا الأثر تقول بأن تاريخه يعود للمرسوم الذي أصدره السلطان محمد الثاني عام 1454 الذي يقضي بالسماح للمسيحيين اليونانيين الأرثوذوكس ببناء مدرسة لهم والتدريس فيها بلغتهم، والبناء بشكله الحالي تم عام 1881، أي بعد حروب بين الانفصاليين اليونان وبين الدولة العثمانية انتهت بانفصال اليونان كدولة مستقلة عن الإمبراطورية العثمانية عام 1832 .!
وبجوار المدرسة يوجد كنيسة قديمة لليونانيين الأرثوذوكس.
وبين أزقة الحي يوجد ثلاثة معابد لليهود، منها “معبد أهريد” الذي بُني في القرن الخامس عشر، ويتميز المعبد بشكله المشابه لمقدمة السفينة، ويرمز تصميمه إلى السفن العثمانية التي حملت المهاجرين اليهود الذين تم طردهم من الأندلس إلى موانئ الدولة العثمانية.
وكنيس يهودي آخر، وهي كنيس “يانبول”، التي يرجع سبب تسميتها إلى اليهود المهاجرين من حي يانبولو في مقدونيا.
وبين ثنايا الشوارع تتناثر المساجد التاريخية وبجوارها المدارس القديمة، فبالقرب من قمة التلة يوجد جامع شيخ الإسلام إسماعيل أفندي، ويلتحق بالمسجد مدرسة وساحة كبيرة تتوسطها نافورة، وحول الساحة على أضلعها الأربع توجد ملحقات المدرسة من مكتبة وسكن للطلاب وغرف للمدرسين.
وبالوصول إلى أعلى قمة تلة “ملا عشقي” يوجد جامع السلطان سليم الأول الذي بناه السلطان سليمان القانوني عام 1532 باسم والده، والجامع كالمعتاد في الجوامع الإسلامية في العواصم الكبرى للإسلام، يقع ضمن مؤسسة كبيرة من المباني الخدمية مثل المدارس والتكايا والمقابر والأسبلة، والمسجد تحفة معمارية؛ حيث القبة الرئيسية تغطي حرم المسجد بكامل مساحته.
وهكذا تجد في حي واحد من أحياء إسطنبول الإسلامية اليهود بجوار المسيحين والمسلمين، والأتراك بجوار اليونان والأرمن والبلغار، ودار عبادة بجوار مدرسة وتكية وسبيل وسكن طلاب، ولولا مخافة الإطالة لدخلت معكم في تفاصيل أدق، ولكن نكتفي بما نؤدي به رسالة المقال.
رسالتنا إبراز تلك اللوحة الفنية الجميلة التي تشكلت من تعايش مختلف الأديان والأعراق في كل عواصم الإسلام، و”إسطنبول” مجرد نموذج له نظائر في كل عواصم الإسلام، وهذا التعايش لم يكن فضيلة للأتراك، كما أنه في الأندلس لم يكن فضيلة للعرب، ولا حتى فضيلة للمغول في سمرقند، ولكنها تعاليم دين عظيم.. إنه الإسلام.
أما أوروبا فلم تتقبل مجرد مذهب مسيحي مخالف للكاثوليكية فقامت حروب بين الكاثوليك والبروتستانت، فضلا عن محاكم التفتيش التي نصبتها (لتطهير) أوروبا من المسلمين واليهود.!
فإن طالت ألسنة البعض، وتعالت مغالطات البعض، فهذه آثارنا، علامات ناطقة، وحجة دامغة.. {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.
(وبعد الختام: أوجه نصيحة لمن يرغبون في زيارة حي بلاط ولا تسعفهم لياقتهم البدنية للصعود، أن يبدأوا جولتهم من قمة التل إلى سفحه، ويمكن الوصول لجامع السلطان سليم الأول سيرا على الأقدام من جامع الفاتح خلال ربع ساعة على الأكثر، ومنها نزولاً إلى شوارع حي بلاط، توفيرا للمجهود).