إستوقفني كلام جميل للدكتور “جوردن بيترسن” الناقد الثقافي وعالم النفس الكندي، عندما عبر في محاضرة له عن مدى أهمية الكتابة وأنها سلاح المرء الذي لا يخيبه.
للكتابة علاقة قوية جدًا مع القراءة، فكلنا نعلم أن أول كلمة نزلت بالقرآن هي “إقرأ” وهذا دليل على عظمة القراءة وأنها هي المرشد الأول لطلب العلم، ولكن؛ هل تعلم أن الكتابة جاءت بنفس السورة الكريمة، وكأنها مكملة للقراءة و للعلم! ذكر ﷲ سبحانه و تعالى فضل الكتابة على الإنسان وأنها مرحلة متقدمة من العلم، مشيرًا إليها بلفظ “القلم” { الذي علم بالقلم } العلق (٤) أي علم الإنسان الكتابة، و بالكتابة يُحفظ العلم وتُنقل الأفكار وتصل الرسائل.. فالكتابة علم و فكر، و صياغتها فن وموهبة.. قالوا إن القلم شجرة ثمرتها الألفاظ، وإن عقل الكاتب في قلمه!
تؤكد كثير من الأبحاث أهمية الكتابة، فهي تحفظ أفكارنا، وتقوي ذاكرتنا، وتنشط مهاراتنا اللغوية والثقافية، بالإضافة أنها وسيلة عظيمة للتنفيس عن المشاعر والأحاسيس، ككتابة المذكرات اليومية.
ويؤكد علماء النفس أن للكتابة تأثير إيجابي على الصحة النفسية، والجسدية أيضا وعلى تنمية الذكاء والتفكير الإبداعي، حتى في حال كتابة التجارب المؤلمة بالإسلوب السردي أو القصصي. فالكتابة أداة جبارة للتعليم و تطوير البشرية، وأنها مِنّة من ﷲ علينا، فجدير بنا أن نُنمي هذه المهارة ونطورها.
ومن تجربتي الشخصية، لاحظت أن كل موضوع يشغلني ويجعلني أكتب فيه ملاحظاتي الشخصية بشكل مطول ومفصل لنفسي، أجد أني أصبح فيه متحدثا جيدا، لأني قد استحضرت الموضوع مسبقا بأكثر أبعاده وناقشته مع نفسي بالقلم، قبل أن أناقشه مع غيري، و تفكرت في ما خطر علي من جزئياته وتفاصيله، وهذا الإهتمام بالموضوع يجعل العقل مشغولا في استحضار أدق المعاني وأنسبها، والناس بطبعها تطرب للموضوع المدروس المحكم. فالكتابة تعتبر المرحلة المتقدمة من التفكير. ومن لم يمسك قلمه ويسجل كل شاردة و واردة فإنه لم يعطِ الموضوع قدره. والعكس صحيح ؛ ففي فترة من الفترات لاحظت تراجعا كبيرا في مستواي التعبيري وضيق نفسي بالكتابة، و أكّد هذا القصور أحد أساتذتي في الدراسات العليا عندما قرأ إجابتي في الإمتحان، فقال لي : “هذه مسجات !” . . . أين التعليل ؟ أين التفصيل ؟ أين الدليل ؟ إسترسل ، أريد أن أقرأ عقلك .. ! سألت نفسي ما الذي جرى؟ و ما كل هذه الإختصارات الشديدة ! فتذكرت إنقطاعي عن الكتابة الحقيقية، وانشغالي في كتابة إختصارات في منصة “تويتر” يسمونها تغريدات ! و كأني عصفور في قفص، فالمساحة فيه محدودة والأحرف معدودة. لذلك كنت ألزم نفسي بالتعبيرات السطحية و بالإختصارات الشديدة المنمقة، كحال بقية زملائي العصافير المغردين، دون أن أدرك عواقب ذلك الإنقطاع ! فمهارة استحضار الكلمات والإسترسال فيها لا تنتجها إلا الكتابة الحقيقية، وليس عالم الإختصارات.
يجب أن نفرق بين كتابة الرسائل القصيرة و الملاحظات العابرة السريعة، عن المواضيع الثقيلة المعتبرة، فهناك مواضيع و قضايا لا يمكن إختصارها بسطرين .
حقيقة ، أتمنى لنفسي ولرواد مواقع التواصل الإجتماعي من محبي الكتابة بالذات أن يتوسعوا في كتاباتهم و مهاراتهم التعبيرية، وألا يحصرواها في مثل هذه المواقع فقط.
إن كل موضوع يثير إهتمامنا و يشاغب أفكاركنا، هو موضوع جدير بأن يكتب بتروي. ويجب أن تُنتقى ألفاظه بدقة حتى يسهل علينا إستيعابه، و يحسن فهمه. فكلما اعتنيت بالعبارة كلما أصبح الموضوع أكثر جمالاً ونضجاً.
عزيزي القارئ؛ أكتب لنفسك.. فإن للكتابة متعة، متعة التحدث مع الأفكار، ومتعة التفكير بتجرد. أكتب أدباً أكتب شعراً أكتب نثرا أكتب قصة، و ثق تماما أن الموضوع الذي قررت كتابته بإتقان ستجد لك فيه بصمة، لا يشبهك فيها أحد، ولك فيه زاوية لم يرَ منها قبلك أحد.
حلّق في السماء الواسعة كالصقر و كفاك تغريدٌ بالقفص .