في رحلتي إلى جزيرة زنجبار كان على رأس أولوياتي زيارة سوق العبيد؛ لأن الجزيرة كانت المركز الرئيس لتصدير العبيد من شرق أفريقيا.
وقد وصلتُها وقت الظهيرة وكان وقت خروج التلاميذ من المدارس، يمرحون بضحكات تعلو وجوههم البريئة، ويظهر معها لمعان أسنانهم البيضاء في وجوههم السمراء (وبضدها تتبين الأشياء)، أرى معظم النساء والفتيات محجبات، والجلباب العربي بالنمط العُماني مع غطاء الرأس منتشر بين الرجال، أبنية قديمة مضى عليها مئات الأعوام مبنية بالحجارة في الوقت الذي كان فيه العمق الأفريقي لا يعرف البناء بالحجارة، أبواب البيوت عتيقة من الخشب دقيق الصنعة جميل الزخرفة وتعلوه الآيات القرآنية.. شعرتُ كأنني أسير في مدينة من مدن سلطنة عُمان أو اليمن.
ليس في ذلك عجب، فقد كانت هذه الجزيرة تحت حكم العرب العُمانيين لمئات السنين، وانتهى وجودهم بمجزرة تطهير عرقي عام 1964، تواطأت فيها إنجلترا مع “جوليوس نيريري” بدعم من زعماء القومية العربية، في مواقف شرحها يطول.
شققت الطرق والحارات الضيقة الملتوية داخل مركز الجزيرة التاريخي (الحي الحجري) المدرج على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، ووصلت إلى بغيتي حيث يقع سوق العبيد الذي تحول إلى متحف ومزار سياحي، وبعد حصولي على تذكرة الدخول، وبمجرد تجاوزي بوابة الدخول وجدت على يساري لوحة مصورة لصبي أفريقي مكبل بالأصفاد ومكتوب تحت الصورة: “جريمة بسيطة من جرائم السيد العربي ضد صبي من العبيد”.
وبعده لوحة كبيرة مرسومة تصور رجالاً بلباسهم العربي وهم يصيدون العبيد من العمق الأفريقي ويقودونهم جماعات مقرنين في الأصفاد حتى الساحل الأفريقي، ومنه إلى جزيرة زنجبار، ومذكور في اللوحة أن العرب كَوَّنوا ثروات طائلة من التجارة في العبيد والعاج.
وبجوار اللوحتين لوحة أخرى بها صورة رجل إنجليزي مكتوب تحتها: “السياسي الإنجليزي وليام ويلبرفورس قائد مكافحة استرقاق العبيد”.
ولكي يستكمِل الإنجليز الحبكة الدرامية بين مجرم عربي يتاجر في العبيد ورسل الرحمة الإنجليز المبعوثين لتحريرهم، أقاموا كنيسة كبيرة في نفس المكان كرمز لدور بريطانيا في إلغاء الرق، وداخل الكنيسة لوحة للتعريف بمنشئ الكنيسة تقول: “باني الكنيسة الإنجليكانية القائمة داخل سوق العبيد هو صديق العبيد الدكتور Edward Steere وهو بنَّاء عظيم ورحالة، ورائد ترجمة اللغة السواحيلية بشرق أفريقيا، وُلِد في لندن عام 1829 وتوفي في زنجبار عام 1882”.
أكملت مسيرتي نحو الأقبية المبنية تحت الأرض، في تلك الأقبية كان العبيد يتم احتجازهم للفرز قبل التصدير إلى أمريكا والغرب، وفي تلك الأقبية يعرضون نماذج لأصفاد يقولون: إنها من بقايا جرائم العرب في تجارة العبيد!
خرجتُ من المكان وفي حلقي غُصَّة نحو تلك الجريمة النكراء، وغصة أخرى حول توجيه الزائر للمكان بأن يوجه كراهيته نحو العرب المتهمين وحدهم بتلك الجريمة!
لقد شارك في تلك الجريمة عربي يقوم بدور التاجر في سوق العبيد بحكم التواجد داخل الجزيرة، وأفريقي يقوم بصيد العبيد من العمق الأفريقي، وكلاهما يعمل لصالح الرجل الغربي الذي يقوم بدور رئيس العصابة والعقل المدبر والمستفيد الأكبر، وهو الذي يقوم بأساطيله عبر البحار بنقل العبيد للاستعباد داخل أوروبا وأمريكا.
هذه هي أركان الجريمة التي أغفلها القائمون على وصم العرب وحدهم بتلك الجريمة في هذه الجزيرة.
بعد تلك التجربة جعلتُ ضمن أهدافي من الترحال في أوروبا البحث عن آثار تجارتهم للعبيد، وكان آخر تلك المحاولات العام الماضي في هولندا التي كانت واحدة من الدول الاستعمارية التي احتلت أجزاء من أمريكا الجنوبية وأجزاء من شرق آسيا.
كانت هولندا تستجلب العبيد من مراكز تجميعهم ومنها زنجبار وتنقلهم إلى جزيرة “كوراسو” جنوب البحر الكاريبي مقابل فنزويلا، التي استولى عليها الهولنديون في عام 1634م، ثم تنقلهم إلى “نيو أمستردام” التي أصبح اسمها الآن “نيو يورك” والقسم الأكبر تنقله إلى “سورينام” المستعمرة الهولندية الرئيسة الواقعة على الساحل الشرقي لأمريكا الجنوبية، وهي أصغر دولة في أمريكا الجنوبية حالياً، وأعلاها نسبة في عدد المسلمين؛ حيث كان كثير من العبيد الأفارقة من المسلمين.
حاولت أن أقف على تاريخ هولندا العريق في تجارة العبيد من خلال زيارة متاحفها، دخلت “المتحف الوطني- ريكس”، والمتحف التاريخي، وتفحصتهما جيداً فلم أجد فيهما شيئاً، قلت: إذاً أجد بغيتي في متحف البحرية الهولندية، فوجدته يصف أمجاد هولندا في سيادة البحار، ويتحدث عن معاركه الحربية، وخطوط تجارته وبضاعته التي ينقلها، ولم أجد أي أثر لعلاقة هولندا بتجارة العبيد!
أنقل هذا المشهد بين يدي القارئ مع الاختصار الشديد؛ أملاً في أن تنفتح عقولنا ومداركنا إلى حجم التزييف الذي يمارسه الغرب ضد تاريخنا وديننا وحضارتنا، ويساعدهم في ذلك نفر من بني جلدتنا، بينما حكومات بلادنا لا تلقي بالاً لإيقاف أو مواجهة تلك الحملات الممنهجة.
وللحديث حول العرب في زنجبار بقية.