بعد أن خرجت من سوق العبيد أحمل غصة اتهام العرب وحدهم بتجارة العبيد، ذهبت لزيارة أطلال قصر السلطان “برغش بن سعيد” المعروف بقصر مرهوبي، الذي بناه بداية القرن التاسع عشر وأصابه التدمير من حريق عام 1889، تجول بي المرشد السياحي بين أطلاله وهو يشير إلى حالة الشبق العربي المتجسد في سلوك السلطان الذي كان ينظر من نافذة القصر لاصطياد من تقع عليها عينه من النساء، بخلاف عشرات المحظيات المجلوبات من خارج زنجبار!
يعني خرجنا من سوق العبيد بتهمة للعرب وحدهم في الاتجار بالعبيد، ومن قصر المرهوبي باستباحة نساء الجزيرة!
بثثت شكواي لأحد الأصدقاء العرب المقيمين منذ زمن مع أسرته في زنجبار، فأضاف لي بأن ما يدرسه أبناؤه في الكتب المدرسية لا يبعد كثيراً عما اشتكيتُ له منه!
تركتُ صديقي وخرجتُ أمارس هواية الاستكشاف سيراً على الأقدام، واصطحبت معي دليلاً محلياً للتعرف على آثار زنجبار في وسطها التاريخي المعروف بالمدينة الحجرية.
أخذت “المدينة الحجرية” اسمها من الحجارة التي بُنيت بها مبانيه، والحجارة تتخذ أشكالاً غريبة وكأنها كائنات بحرية، فتلك على شكل إسفنجة، وهذه بشكل محارة، والسِّر في ذلك يعود لكونها حجارة مستخرجة من المحيط.
في جولتي في هذا الحي محدود المساحة، وبرغم أن الغالبية الساحقة من سكان الجزيرة وبنسبة تزيد على 95% من المسلمين، وجدتُ بها كنائس لمختلف الطوائف ومنها الكنيسة الأنجليكانية الموجودة داخل سوق العبيد، وكنيسة أخرى كاثوليكية ضخمة، وهما تستوعبان سكان الجزيرة من المسيحيين لو اجتمعوا جميعاً في وقت واحد!
وأثناء تجوالي وجدت معبداً هندوسياً متوسط الحجم ولم أجد به سوى أسرة واحدة تقوم بطقوس العبادة، سألت دليلي: هل يوجد هنا هندوس؟
فأجاب بالإيجاب، وأضاف أن عددهم قليل ولكنهم متواجدون على الجزيرة من مئات السنين ولهم في الجزيرة ستة معابد قديمة برغم قلة عددهم، وزاد بأن هناك عدداً أقل من طائفة السيخ ولهم معبد قديم في الجزيرة.
وبجوار الكنيستين والستة معابد الهندوسية ومعبد للسيخ، يوجد خمسون مسجداً لمختلف الطوائف الإسلامية، والتجاور والقرب بينها عجيب، ففي حارة واحدة يوجد مسجد حنفي (هكذا مكتوب على لافتته)، ويبدو من خلفه مئذنة أسطوانية بيضاء لمسجد للمذهب الإباضي، وعلى بُعد خطوات معدودة يوجد مسجدان متقابلان يفصلهما شارع عرضه لا يتجاوز الأربعة أمتار، أحدهما لطائفة الإسماعيلية والآخر لطائفة البُهَرَة، وهما مجاوران تماماً للمعبد الهندوسي.
ومع استمرار المسير استوقفتني كتابة عربية على باب أحد المباني، اقتربت منها لقراءتها فوجدتها “وَقْف”، سألت دليلي عن هذا المبنى، فقال لي: كانت هذه الجزيرة أثناء الحكم العربي موئلاً للمضطهدين في البلاد والجزر المجاورة؛ فهذا البيت بناه أحد المُحسِنين من أهل جزر القمر، وجعله وقفاً لإيواء الفارين من بطش البرتغاليين ثم الفرنسيين الذين تناوبوا الحكم على جزر القمر ذات الأغلبية المسلمة.
هكذا تشهد حجارة المدينة الحجرية على آثار العرب في الجزيرة.. مشهد عجيب يعبر عن مدى التسامح والتعايش الذي امتازت به الجزيرة المعزولة في المحيط تحت حكم العرب المسلمين، تسامح وتعايش لم يكن له مثيل في زمنه في كل أوروبا!
أين هذا من أكاذيب الكتب وكلام المرشدين السياحيين ومواد الدعاية؟!
يا ترى أيهما أصدق: كلام الكتب والدعاية، أم الأحجار الشاهدة الصامتة التي لا تعرف ما يعرفه البشر من كذب؟!
قبل أن تنتهي جولتي في المدينة الحجرية التي دخلت ضمن تصنيف “اليونسكو للتراث العالمي” بصفتها مبانيَ أثرية تعود لفترة الحكم العربي للمدينة، سألت دليلي السياحي: هل كان العرب في فترة حكمهم للمدينة وقبل الانقلاب الدموي التي أطاح بهم عام 1964، هل كانوا يعيشون في أحياء خاصة بهم تفصلهم عن السكان من أصل أفريقي؟
أجاب: لا.. لم تعرف الجزيرة هذه التفرقة أبداً أثناء الحكم العربي.
اكتفيت منه بهذه الإجابة، آملاً أن تكون إشارة لعقل اللبيب.
وما زال للحديث بقية!