إن العمل العظيم في مغزاه ليصغر إذا جهل الناس هدفه ومرماه، وكذلك هذا الحج أقام الله به دعائم الصلاح والقوة في الحياة، ولكن وللأسف فقد أصبح عند بعض المسلمين عبادة آلية عادية يؤدونها وخيرهم من يرجو بها المثوبة والأجر، أما ما وراء ذلك من منافع مادية وروحية واجتماعية فإنهم لا يطيلون فيها التفكير، ولا ينظرون إليها نظرة الفاحص الخبير!
وإذا كان الإحرام والتجرد من الثياب المخيطة هو رمز المساواة بين المسلمين جميعاً أمام خالقهم فلا تفاضل أو تميز بجاه أو مال أو ثياب، ولا بلون أو جنس أو لسان، بل الكل عباد وهم أمام الواحد القهار سواء، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بتقوى الله والعمل الصالح.
وإذا كان الطواف حول الكعبة المشرفة واتجاه المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها إليها في كل صلاة، هو رمز لوحدة الهدف والغاية، وهي عبادة الله والفوز برضوانه.
وإذا كان رمي الجمار تمثيلاً رائعاً لطاعة الرحمن وعبادته، ورجماً للشياطين ومخالفته، والدفاع عن الحق ومواجهة الباطل وإنكاره.
وإذا كان النحر تحقيقاً للإخاء والتعاون والتكافل بين المسلمين بإطعام الفقراء والمساكين في يوم العيد.
إذا كانت كل هذه المناسك والشعائر هي رموز لهذه المقاصد السامية والغايات الشريفة والمبادئ الكريمة، فإن أروع ما في الحج ـ كما يقول الأستاذ صالح عشماوي ـ من مقاصد وأهداف وغايات، هو تجسيد معنى أن المسلمين ـ على اختلاف شعوبهم وألوانهم وجنسياتهم ـ هم ((أمة واحدة)) و ((وطن واحد)) وهذا يتجلى بأروع مظهر يوم الوقوف بعرفة.
فجميع الحجاج الذين وفدوا من كل بلد وقطر، وقفوا في ثياب واحدة بيضاء، رمز الطهر والصفاء، حاسرة رؤوسهم، يرفعون الأكف في ضراعة وخشوع وانكسار وخضوع، يذكرون رباً واحداً وخالقاً واحداً، ويسألونه المغفرة وقبول التوبة، والرحمة والعفو عن الذنوب والسيئات، ويدعون ويلحون عليه في الدعاء، راجين منه العون.
وفي هذا الموقف ترى العربي والهندي والفارسي والإفريقي والتركي والأفغاني والاندونيسي والأوروبي والأمريكي، يذكرون الله وحده بلسان عربي، لا بلغة أعجمية ولا بلهجة إقليمية مردِّدين: ((لا إله إلا الله محمد رسول الله))، ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) ((سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)).
هناك على عرفات، ترى الشعوب الإسلامية ـ على اختلاف ديارها وتباعد أقطارها واختلاف ألوانها وألسنتها وأزيائها ـ قد انصهرت في بوتقة الإسلام، هنا يتجلى ويتجسد معنى أن المسلمين ((أمة واحدة)) وأن ((الإسلام وطن وجنسية))! وصدق الله العظيم إذ يقول: ((إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)) سورة الأنبياء: آية 92.
فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها أمة واحدة، يعبدون رباً واحداً، ويتبعون رسولاً ونبياً واحداً، ويحكمون دستوراً وقرآناً واحداً، ويعيشون على رقعة من الأرض، إن اتسعت وامتدت من المحيط إلى المحيط، إلا أنها وطن واحد.
تُرى هل فقه الحجاج الواقفون على عرفات هذا المعنى؟ وهل أدركه المسلمون من غير الحجاج ـ وقد سُنّ لهم أن يصوموا يوم عرفة ـ ليتصلوا بقلوبهم وأرواحهم بإخوانهم الحجاج؟
وهل يسعى الجميع ليحققوا هذا الهدف النبيل والغاية السامية من مقاصد الحج؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) مستشار اقتصادي وأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
للتواصل: zrommany3@gmail.com