تابعتُ طرفًا من المقالات التي نُشِرتْ عن إعادة افتتاح مسجد آيا صوفيا في إسطنبول بعد أن حوله الرئيس التركي الراحل مصطفى كمال أتاتورك لمتحف لقرابة 86 عامًا؛ لتُقام فيه أول صلاة جمعة مُجددًا في 24 من يوليو الماضي؛ ويعود المسجد إلى رحاب القائمين والراكعين والساجدين كما كان منذ عام 1453 حتى عام 1935م؛ وكان لي رأي في الأمر آثرتُ تأخيره حتى أزور المسجد؛ وهو ما أُتيح لي مرتين الأولى في الأحد التالي لافتتاحه، والثانية في أول أيام عيد الأضحى المبارك أو في أول عيد يتجدد في المسجد وثاني صلاة للجمعة فيه.
في التاسعة ونيف صباحًا كنتُ في مُحيط المسجد أشاهد أعدادًا ليست بالكثيرة من المُسلمين بدأت تحيط به؛ على النقيض من الزيارة الأولى لي إذ كان السياح يتوافدون بكثرة مع الأتراك في مثل الوقت نفسه؛ في داخل المسجد تأسرك الرطوبة النابعة عن نوعيّ الأحجار المبنية به كاتدرائية آيا صوفيا البيزنطية قديمًا (عام 537م)؛ أو “كنيسة الحكمة الإلهية”؛ ثم المسجد على يد السلطان محمد الفاتح لاحقًا، وقد بُنِيَ المسجد في الأساس من الرخام والجرانيت اللذين يمتصان الحرارة ويبثان برودة يستريح الجسد لها في الأيام الشديدة الحرارة والرطوبة.
فرشتُ مصلاتي المصنوعة من مادة أقرب إلى “الفيبر”، التي تشرفتُ بأن أهدتني إياها سيارة تابعة لبلدية حي الفاتح التابع لها المسجد؛ لكن قرب العاشرة ونيف أذاع ميكرفون المسجد نداء بالخروج منه لمدة ساعة إذ إنهم بصدد تعقيم المسجد حرصًا على سلامة الزائرين من فيروس كورونا؛ أمر مُقدر بالتأكيد لكنه سيساوي إبعادي عن مكاني المتوسط من المسجد الذي يُمكنني من رؤية الإمام وهو يخطب وقد جلستُ فيه قرب الساعة العاشرة؛ فماذا بعد إخراجي منه وإعادة إدخالي إليه؛ فكيف سيكون حالي وحجم الزحام حينها؟!
كنتُ أنوي أن أكتب قبل مشاهدتي التجربة بعيني ومعاناتي الشديدة مع محاولة دخولي المسجد من جديد؛ كنتُ سأكتب أنه في حال انفلات المعايير العالمية؛ وغلبة تحويل المساجد إلى كنائس في الأندلس القديمة بل لحظيرة خنازير كما في أرمينيا من المُعاب أن تقول تركيا: إن السلطان الفاتح اشترى الكنيسة التي كانت تعد درة تاج الإمبراطورية البيزنطية؛ وإن مثل هذه الأقوال لا تعزز الحق التركي في المسجد؛ بل تفتح الباب لكثرة القيل والقال حول “الطُويب” (الطابو) أو توثيق شهادة البيع والشراء وفق العرف التركي؛ كما كان من رأيي أن الطريق لاسترداد المسجد الأقصى وإهداء العالم معرفة المعاني الصحيحة للإسلام ما يزال صحيحًا؛ وبالتالي تحرير عشرات المساجد الأخرى على الأقل؛ وبالتالي فإن الفرحة بافتتاح وإعادة “آيا صوفيا” منقوصة لغياب مساجد أخرى لا عدد لها؛ ومن وجهة نظري قبل بقية زيارة الجمعة أول أيام الأضحى؛ فإن الأمر أشبه بالفرحة بالسير لعشرة خطوات في طريق يقارب الكيلومتر على الأقل.
بعد خروجي فوجئتُ بأن لدى باب الدخول بين المئات الذين يقفون في حرارة الشمس المتوجهة؛ وإن الشرطة التي تتعامل بلطف مع الواقفين تراعي دخول العشرات وفق مخطط تقديري لحجم استيعاب المسجد؛ إلى جواري كان مُسنين من الأتراك من الذين قل عددهم في صلاة الجماعة في المساجد خوفًا من كورونا؛ وها هم بالعشرات يحاولون الدخول إلى “آيا صوفيا” دون خوف أو حذر؛ بالإضافة لشباب من مختلف الأعمار؛ إلى جواري مباشرة باسطينَ المُصليات على رؤوسهم في محاولة للاحتماء من درجة الحرارة كان ثلاثة من الشباب المغاربي؛ صاح فيهم أحدهم: أبعدهم عني.. بأنه مُتعب سيُضطر للانسحاب؛ فرجاه أقربهم مني بأن يبقى لينالوا “شرف الصحبة”.
وفي حين كانت الشرطة تسمح للأطفال والنساء بالدخول الفوري في لفتة إنسانية خوفًا من ارتفاع درجات الحرارة وتأثيرها عليهم، كانت شرطيتان تشيران في تعب وشبه ذهول وسخرية إلى كثرة المُنتظرين؛ أما ما لم يكن يخطر لي على بال ففرحة العشرات بالدخول للمسجد؛ حتى إن بعضهم كان يقطع المسافة المستطيلة من أمتار باب الدخول الخارجي للمساحة المسقوفة من المسجد هرولة وجريًا.. مما جعلني أفكر في قوة في حجم التعطش الذي بداخل الأتراك نحو نصرة الإسلام؛ ورغبة مئات من مختلف الشباب العربي والمسلم رؤية المسجد وقد عاد لأحضان الإسلام تعبيرًا عن انتصار لهذا الدين رغم المحن والابتلاءات وتكالب الأمم على أفراده.
عند الثانية عشرة والربع عدتُ مجددًا إلى المسجد لأصلي في إحدى المقاصير الفرعية العالية عن ساحته بسنتيمترات؛ وكنتُ أرى رجالًا وشبابًا حريصين على تصوير الجموع؛ ومحاولة الدلوف لساحة المسجد بأي طريقة؛ وفيما كنتُ أستمع جزءًا من القرآن الكريم من سورة “البقرة” بصوت أربعة من القراء المُتمكنين كنت أفكر في الحديث الشريف القائل: “بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا” (رواه أبو هريرة، رضي الله عنه، وأخرجه مسلم وابن ماجة)، وفي قدرة هذا الدين العجيبة على الصمود رغم ظلام وقسوة ومادية الحضارة الغربية السائدة اليوم.
حين دعا الخطيب لعموم المسلمين وعند رؤيتي المئات الخارجة من المسجد كنت أدرك جيدًا أن الغلبة والمستقبل لهذا الدين رغم أنف أعدائه وإن كثروا؛ وأن التنظير والرأي مهمان جدًا لكن الأهم رأي وتحرك الجماهير المُلاصقة للحدث.