استغرقت “حرب البسوس” أربعين عاماً (494م) بين قبيلة تغلب بن وائل وأحلافها ضد بني شيبان وأحلافها من قبيلة بكر بن وائل وحلفائها، فأفنت هذه الحرب الشباب، ورمَّلت النساء، ومحلت الأرض، هذه هي حرب البسوس قديماً، فماذا يختلف عرب اليوم؟ لقد مضت 20 عاماً منذ الألفية الجديدة ونتائجها ظاهرة العيان أن العرب مستمرون في هدم البنيان، وربما سيستمرون عشرين عاماً أخرى ليأتوا على كل ما لديهم من قوة اقتصادية وبشرية وإستراتيجية ستفني الشباب وترمل النساء وتستنزف الموارد وتطوق المنطقة العربية بطوق التبعية وتلتحف بالتخلف والفقر.
بين يدي الهدم:
منذ عقد من الزمان (2010) بدأت الثورات العربية من تونس، وانتشر مداها في المنطقة العربية، واصطدمت بقوى الدولة العميقة فيها، هذه القوى التي تحالفت مع العسكر أو الدكتاتورية العربية وبعض القوى العلمانية وتلقت الدعم الإقليمي والدولي لإجهاض هذه الثورات ولإبقاء المنطقة تحت التبعية الدولية.
لقد أدى هذا الصدام إلى حالة من فشل الدولة، وإلى دمار كبير، مع انحسار الحريات، وتفاعلت قوى الهدم لتخلف مشهداً كارثياً من الانهيار والتراجع الاقتصادي والمدني وكان من نتائجه:
أولاً: تكريس نموذج الدولة الوطنية الفاشلة:
حيث تراجعت الحريات والمشاركات السياسية وتقلصت الديمقراطية، وتحولت إلى صورة إعلامية استهلاكية، لقد دخل العرب في علاقات عربية متوترة واحترابية على جهات متعددة، وفشلت الجامعة العربية في كل مؤتمراتها، وأصبحت ملحقاً في محور عربي تنتمي له دولة المقر.
وتم إسقاط النموذج الديمقراطي الذي حاولت الثورات بناءه لترسيخ العدالة وتوزيع الثروات والاحتكام لدساتير شعبية، ليسود إعادة إنتاج الدكتاتورية العربية من جديد، وبحماية دولية وإقليمية، وتكريس دولة الفساد، ووفقاً لمؤشر مدركات الفساد لعام 2018؛ فإن دولاً عربية عدة دخلت في مقدمة هذا المؤشر، بحيث إن أسوأ عشر دول فاسدة عالمياً منها خمس دول عربية.
وما زالت غالبية البلدان العربية تواجه صعوبات في إنشاء مؤسسات فاعلة وشفافة وخاضعة للمساءلة؛ مما سبب فساداً ومحسوبية عصفت بالبنيان المؤسسي للدولة، ولا تزال المنطقة العربية متأخرة في دعم سيادة القانون، ووثقت منظمات محلية وعالمية حالات الاعتقالات والاحتجازات التعسفية والتعذيب، وضاعت ضمانات العدالة الاجتماعية وحماية حقوق الإنسان، وتحكم قانون الطوارئ بالحالة المدنية والسياسية.
لقد تضخم دور الدولة الدكتاتورية على حساب الدور الأساسي للمجتمع، وافتقرت الدول إلى سيادة القانون وتساوي كل المواطنين حكاماً ومحكومين أمامه.
ثانياً: هدم البنيان الاقتصادي:
يتمثل هدم البنيان الاقتصادي للمنطقة العربية في فشل المشاريع المشتركة، وخصوصاً في المشاريع الاقتصادية الكبرى، إن فكرة إقامة سوق عربية مشتركة هو بالأصل يهدف إلى تحريك الأموال العربية في مشاريع مشتركة، وتشغيل الأيدي العاملة، وتيسير التجارة البينية بين الدول العربية، وتعديل الميزان التجاري لصالح المنطقة العربية فيما بينها.
إن حالة الاحتراب بين المحاور ذات المصالح الإقليمية والتدافع سبَّبت استنزافاً للموارد المالية التي تدفع بتطوير السوق العربية لصالح شراء السلاح الأجنبي وتدمير الأراضي الزراعية والصناعية، وكذلك في هروب رؤوس الأموال إلى مناطق آمنة خارج المنطقة العربية، حيث استحوذت المؤسسات المالية الغربية على رؤوس أموال عربية هائلة، حيث أفرغت خزائن العرب لتملأ خزائن الغرب.
من جهة أخرى، فإن هناك فشلاً في استثمار الأراضي الزراعية في المنطقة العربية، فبالرغم من أن الزراعة تسهم بـ7% من الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة، وهي مصدر لـ38% من السكان كمورد رزق رئيس، لكنها تسهم بنسبة 23% من الناتج المحلي في البلدان الأقل نمواً، ويعتبر الاستثمار العام في الزراعة بالمنطقة منخفضاً مقارنة بالاستثمار في القطاعات الاقتصادية الأخرى، ويبلغ مؤشر التوجه الزراعي 0.28 فقط في المنطقة، وهو أدنى المؤشرات بين جميع المناطق، ويعادل نصف المتوسط العالمي حسب التقرير العربي للتنمية المستدامة عام 2020.
وهناك معوقات اقتصادية وغياب للتنسيق بين الخطط الاقتصادية العربية، مع عدم تعاون اقتصاديات دول المنطقة، أدى إلى خلل في تنمية التجارة بالمنطقة وتعزيز السوق العربية وأخل بالتكامل الاقتصادي بين دولها، وخصوصاً أمام التكتلات العالمية والإقليمية التي تهدد مصالح الدول العربية، هذا ما كشفته دراسة أعدها مجلس الوحدة العربية الاقتصادية حول منطقة التجارة العربية، وأنها تواجه الفشل والإحباط.
لقد أصبحت أشكال التحكم بالتجارة البينية على شكل قيود وعوائق غير الجمركية؛ كالإجراءات شبه التعريفية والمالية والسعرية والكمية الفنية، مع عدم توافر بنية للمعلومات والاتصالات، وإن هناك عراقيل تتعلق بتطبيق مبدأ المعاملة الوطنية للسلع العربية المتبادلة مع عدم كفاءة القطاع الخاص العربي في منطقة التجارة الحرة العربية؛ مما يؤثر على التكامل الاقتصادي، حيث لم يزد مؤشر التكامل خلال الفترة (1998-2006) على 5.7%، مع تراجع إنتاجية القطاع الزراعي.
ولم تحظ نسبة التجارة البينية في السلع 13% عام 2017، ولا تزال أقل بكثير مما هي عليه في الاتحاد الأوربي (64%)، وفي رابطة أمم جنوب شرقي آسيا (24%) (التقرير العربي للتنمية المستدامة 2020).
لقد أدت الحروب الأهلية والطائفية دوراً في انتشار ظاهرة الفساد المالي والإداري، حيث حصل لبنان والعراق وسورية واليمن وليبيا والصومال مراكز متأخرة في ذيل القائمة.
ومع أن دولاً عربية نفطية لديها مداخيل جيدة، حيث إن صناديقها السيادية مستثمرة في السوق الغربية بنمو 2.8 تريليون دولار، فإنها تتسابق للاقتراض الخارجي.
إن هروب رؤوس الأموال للخارج يسبب انخفاض الإيرادات الضريبية، ويؤدي إلى عجوزات في الميزانيات العربية، وسيؤدي إلى عجز المدخرات الوطنية وعدم القدرة على توفير التمويل للاستثمارات المحلية، وانخفاض معدلات النمو، وزيادة البطالة، وتدهور المعيشة، كما سيؤدي إلى تدهور قيمة العملة المحلية، ويؤثر على الواردات وسداد الديون.
ومع غياب التكنولوجيا المتطورة في العالم العربي والقوى البشرية المدربة والبنية التحتية الضرورية للاستثمار، فإن ذلك يساعد في هروب الأموال إلى الخارج.
إن ذلك يشكل هدماً للبنيان الاقتصادي بالمنطقة العربية في فشل استثمار مواردها، وفشل التجارة البينية بينها، واستيراد غذائها وأدواتها، وفشل المشاريع الكبرى، وهروب رؤوس الأموال واستثمار الصناديق السيادية لها خارج أسواقها؛ ليجعل بنيان هذه المنطقة معرضاً للضعف والتبيعة والاستهلاك الدائم، وعجز الإدارات الحكومية عن بناء منظومات اقتصادية قادرة على مواجهة الاحتياجات والأزمات والمتغيرات الاقتصادية العالمية.
ثالثاً: هدم الإنسان والبنيان في حروب العرب الجديدة:
منذ اشتعال الثورات والثورات المضادة ولم يتوقف تدمير البنيان والإنسان، عشر سنوات من التدافع والإقصاء والاحتراب تم خلالها هدم المدن والحواضر، وقتل الإنسان، وتجريف التنمية، وإهلاك البنى التحتية التي بنيت في العقود الماضية، فالمنطقة إلى عام 2020 أصبحت بيئة مضطربة تسوجها صراعات مسلحة مفتوحة، في مقابلها احتجاجات شعبية مستمرة، وهناك تحالفات عربية-عربية، وجيوش خارج نطاق الدولة، ومليشيات حاكمة، فهي تعيش حرباً حقيقية من إسقاط طائرات وتفجيرات سفن وجيوش تتحرك ومعسكرات تقصف وصواريخ تدمر ومدن مدمرة وقرى محاصرة، وهكذا تحول العالم العربي إلى عالم من الإقصاء والتهميش والاحتراب، وإلى تغذية التطرف والإرهاب، وتغول السلطات، وتغذية الصراعات الطائفية والعرقية؛ أدى ذلك إلى قتلى وجرحى بمئات الآلاف، ومشردين بالملايين، ووقوع خسائر اقتصادية فادحة.
وفي تصنيف عالمي للتكلفة الاقتصادية للعنف، حصدت سورية والعراق المرتبتين الأولى والثانية على التوالي، تبعهما الصومال وليبيا واليمن.
لقد ارتفعت نسبة الإنفاق العسكري في المنطقة العربية بنسبة 78% بين عمي 2014-2018، وهي استزفت الميزانيات العامة من موارد قيمة للتنمية، وترتب على هذه الصراعات آثار ضارة أخرى؛ كتزايد الاتجار بالبشر وغسيل الأموال وتهريب السلاح.
لقد أدت تلك الحروب في عالم العرب إلى تدهور الحالة المدنية بشكل عام من ذلك:
– تدهور الحالة الصحية:
فقد تأثرت بنية النظام الصحي في المنطقة العربية وخصوصاً الدول ذات الأزمات والصراع، ووثقت عودة الأمراض الوبائية مثل الكوليرا، وتزايد معدلات انتشار كورونا بشكل كبير.
– تدهور الخدمات والطاقة:
ولقد أصبح الحصول على الكهرباء صعباً، حيث حرم 36 مليون شخص من الكهرباء، في عام 2016، ولا تزال بلدان المنطقة العربية الأقل نمواً في مسار الحصول على الكهرباء وتسجل مستويات دون 50%، وتصل إلى 38% (السودان) و30% (الصومال)، ولا تزال العديد من البلدان تعاني من قطع الخدمة والتيار الكهربائي، وإن الاستثمار في قطاع الطاقة لا يشكل إلا حوالي 2.7% من إجمالي تكوين رأسمال الثابت للمنطقة في عام 2016، ولا تزال البلدان الأقل نمواً في المنطقة تواجه نقصاً في الحصول على الكهرباء وعلى أنواع الوقود والتكنولوجيا.
– إن هذا الاحتراب قد أدى إلى حالة سكانية من النازحين في أوطانهم أو خارجها، فالمنطقة العربية بها أكثر من 14.9 مليون شخص من النازحين داخلياً، لقد أدى ذلك إلى زيادة حالات الإعاقة والمرض المزمن وتدمير الموارد الطبيعية وتفكيك شبكات الدعم الاجتماعي، وهؤلاء النازحون عرضة للمخاطر وانتشار الفقر والحرمان، وهم يعيشون في مخيمات سيئة، إذا أضفنا أنه في عام 2018 بلغ عدد اللاجئين في المنطقة 3.7 مليون، و5.4 مليون لاجئ فلسطيني وفق “الأونروا”.
– زيادة الفقر في المنطقة العربية:
لقد شهدت المنطقة العربية حالة الارتفاع الوحيدة بالعالم في الفقر المدقع نتيجة الصراعات (وفق التقرير العربي للتنمية المستدامة 2020)، فقد ارتفع عدد الفقراء حسب خط الفقر المحدد بالعيش على 1.90 دولار في اليوم من 4% عام 2013 إلى 6.7% عام 2015، ويشكلون 16% في البلدان الأقل نمواً في المنطقة العربية، وهي تفوق نسبة الفقر المدقع عالمياً، حيث تصل معدلات الفقر على مقياس الفقر المتعدد إلى 41% في 10 بلدان عربية تضم 75% من سكان المنطقة، وبالتالي فإن الصراعات تؤدي إلى ارتفاع مستويات نقص التغذية في المنطقة، ويعيش ثلثا الذين يعانون من الجوع في البلدان المتأثرة بالصراعات، حيث طال الدمار البنية التحتية للإنتاج، وتقطعت سلاسل الغذاء، وهجرت الأرض الزراعية بسبب تضررها أو نزوح السكان، وتسجل البلدان العربية الأقل نمواً على معدلات نقص التغذية في العالم، وعلى سبيل المثال في السودان طال 25.2% من السكان عام 2016، وفي اليمن 34.4% من السكان، وفي العراق 27.7% من السكان.
لذلك ترتفع نسبة معدلات الجوع في البلدان المتأثرة بالصراعات، حيث إن مؤشرات الجوع وانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية يناهز ثلاثة إلى خمسة أضعاف القيم المسجلة في سائر بلدان العالم.
– تدهور مستوى الحالة التعليمية والأبحاث:
فانخفض معدل الالتحاق بالمدارس في البلدان المتأثرة بالصراع مع عدم فاعلية المؤسسات التعليمية، وفي عام 2017، وفق التقرير العربي للتنمية المستدامة 2020، احتاج نحو 18.4 مليون طفل في سن الدراسة إلى المساعدة لمواصلة تعليمهم في سبع دول (سورية، السودان، الصومال، فلسطين، العراق، ليبيا، اليمن)، ونتيجة لتدهور الأوضاع واللااستقرار؛ فإن 16 مليون طفل من 10% في سن التعليم الابتدائي، 32% في سن التعليم الثانوي غير ملتحقين بالمدارس في المنطقة، علماً بأن أقل من 40% أكملوا تعليمهم في المرحلة الثانوية.
لقد تضررت آلاف المدارس في ليبيا واليمن وسورية والعراق من جراء الصراع، واستخدمت مئات منها لإيواء النازحين أو لأغراض عسكرية، علماً بأن 50% من نسبة الطلاب في الصف الأول الثانوي لا تصل للحد الأدنى من مستوى الكفاءة (وفق التقرير العربي للتنمية المستدامة 2020)، ولايزال التعليم الثانوي والتدريب التقني والفني متدني الجودة (فقط ثلث الخريجين مهيؤون للعمل)، فالمنطقة العربية تواجه ضعفاً في الاستثمار في الإمكانات البشرية، ولا تمثل المناهج التعليمية تطوراً نوعياً فعالاً، مع ضعف البنية التكنولوجية في التعليم، حيث تتحول الأموال لشراء الأسلحة والصراع.
ولا تتجاوز نسبة الباحثين في المنطقة العربية 2% من مجموع الباحثين في العالم، ولا تتجاوز نسبة الإنفاق على البحث والتطوير 0.64% من الناتج المحلي الإجمالي؛ أي أقل من نصف المتوسط العالمي، ولا يُصنف أي بلد عربي ضمن أفضل 20 بلداً حسب مؤشر الابتكار العالمي.
– نمو البطالة وتزايد أعداد الهجرة للعمل بالخارج:
بلغ معدل البطالة في المنطقة العربية 10.3% عام 2016، وهو أعلى معدل في العالم، ويساوي ضعف المتوسط العالمي تقريباً، أما عن الشباب؛ فقد سجلت بطالة الشباب في المنطقة الأعلى بالعالم في عام 2017، حيث بلغت 26.1%؛ أي أكثر من ضعف المتوسط العالمي البالغ 12.6%، وأن 80% من الشباب يعملون في القطاع غير النظامي، ويتركزون في أعمال متدنية النوعية وقليلة الإنتاجية مقابل دخل غير منتظم.
تصل نسبة العمالة المهاجرة في الشرق الأوسط 40%، وهي أعلى نسبة بين مجموعات البلدان في العالم، حيث يبلغ المتوسط العالمي 4.2%.
رابعاً: هدم الحالة الجيوستراتيجية في المنطقة العربية:
أدى الاحتراب والصراع في العالم العربي إلى إنهاك الجيوش النظامية، وإخراج جيوش يرتكز عليها الأمن القومي العربي كالجيشين العراقي والسوري، مع الاستنزاف الذي يعاني منه الجيش السعودي في حرب اليمن، ولم يتبقَّ إلا الجيش المصري الذي ربما يُزج به في حرب عربية في ليبيا دون سياسة واعية ربما يدمر هذا الجيش ليصبح الأمن القومي العربي مكشوفاً بشكل جلي؛ ليصبح التفوق للدول الثلاث الإقليمية في المنطقة (تركيا، إيران، “إسرائيل”)، ولتبقى الدول الكبرى تنسق مع هذه الدول من أجل مصالحها لرعايتها والسيطرة على العالم العربي.
لقد كان للدور العربي في تمكين الولايات المتحدة من العراق وتحطيم الجيش العراقي، وإعادة تنظيمه فيما بعد ليصبح شرطياً تحت إمرة إيران والولايات المتحدة، وكذلك كان للدور العربي في التخلي في منتصف الطريق عن دعم الشعب السوري في مواجهة طغيان النظام السوري أدى إلى تفكيك قوة الجيش السوري ليصبح تحت إمرة الجيش الروسي والإيراني، ثم أتت الحرب في اليمن لتضع الجيش السعودي تحت الاستنزاف اليومي والمنهك.
لقد كان من نتائج ذلك أن القرارات الجيوسياسية للوطن العربي أصبحت بيد القوى الإقليمية بسبب هذا التفتت والتدخل الإقليمي في جغرافية العرب، حيث أثرت إيران على القرار الجيوسياسي في العراق وسورية ولبنان واليمن، وأثرت تركيا على القرار الجيوسياسي في ليبيا وقطر والصومال، وتؤثر “إسرائيل” على القرار الجيوسياسي في مصر والسعودية والإمارات، وبالتالي فإن قرار الأمن القومي العربي أصبح تحت السيطرة والتوجيه الخارجي والتدخلات الإقليمية والدولية.
لم تعد فلسطين قضية مركزية عند النظام السياسي العربي، بل إن التنسيق العربي لمواجهة “إسرائيل” أو لمواجهة إيران في المنطقة العربية أصبح ضعيفاً، بل العكس؛ فهناك تنسيق إستراتيجي ما بين “إسرائيل” ودول عربية من جهة، وإيران ودول عربية أخرى من جهة أخرى، وهكذا فإن أمن العرب أصبح في مهب الريح تتقاذفه المصالح الإقليمية والدولية.
القوى الأجنبية في أحشاء العالم العربي:
إن المنطقة العربية تحتضن أعداداً كبيرة من القواعد الأجنبية التي تعتبر أهم أدوات النفوذ الخارجي في المنطقة، وبها تخط حدودها وأمنها القومي في المنطقة العربية، وتقوم بمهام عسكرية ولوجستية واستخباراتية.
وبسبب الضعف العربي وهشاشة النظام السياسي فيه، فهناك اتفاقيات أمنية وقواعد عسكرية وتواجد أمني في المنطقة العربية؛ حيث يقدر عدد القواعد الأجنبية بمختلف مستوياتها ودولها في المنطقة العربية بـ35 قاعدة موزعة كالتالي: جيبوتي 5، الصومال 2، الكويت 3، البحرين 3، قطر 2، العراق 1، سورية 6، السعودية 2، الإمارات 4، ليبيا 1، عُمان 5، الأردن 1.
كما تتواجد قوات أجنبية في المنطقة العربية تتجاوز 70 ألف جندي، لقد أدت تلك الاتفاقيات الأمنية والهياكل التحتية للقواعد العسكرية والتواجد الأجنبي إلى تفكيك وحدة الأمن القومي العربي، وإلى ربطه تبعياً إلى محور دولي أو محور إقليمي تابع ويحقق مصالح دولية، كما أن ذلك ساهم في زيادة التكلفة الإنفاقية على التسليح والصيانة والتجهيز التي تقتضيها الاتفاقيات الأمنية مع تلك الدول الإقليمية والكبرى.
كما أدى ذلك إلى سقوط الجغرافية العربية تحت الهيمنة والسيطرة على البحار الإستراتيجية والمحيطية بجغرافية الدول العربية، وأصبح للقوى الإقليمية موطن قدم وأساطيل بحرية تجوب تلك البحار عدا السيطرة على الأجواء العربية وعمل خطوط جوية تحت السيطرة الدولية لا يمكن تجاوزها كما في سورية والعراق واليمن وليبيا.
وبالتالي؛ فقدت المنطقة العربية ودولها أي ميزة جيوستراتيجية وبالطبع فإن قوة العرب اتجهت لحرب الحدود فيما بينها ولحصار المدن والدول كما هو حاصل في حصار قطر وعدن وتعز والحديدة وإدلب والموصل وطرابلس وغزة وسيناء، وأصبحت المليشيات والقوى خارج الدولة بتحالفاتها الإقليمية والمحورية مع دول عربية تتحكم بمسار الحياة المدنية والعسكرية؛ لذلك أصبحت تلك القوى أقوى من الدولة وتتحكم بمسار الأحداث، وانعدمت الثقة عند الناس في قدرة الدولة العربية على الحفاظ على أمن المواطنين أو الدفاع عن مصالح الدولة، عدا فشلها في التنمية ورفع مستوى المعيشة والنهوض بالاقتصاد الوطني.
ما نتائج هدم البنيان العربي وحروب البسوس التي لا تتوقف؟
إن النتيجة واضحة؛ أن قوة العرب ومواردهم أصبحت في حكم الاستغلال من الاستعمار الجديد، وأن هذه الدول لم تعد تشكل قوة للحفاظ على الأمن القومي العربي، لقد انفرط عقد الوحدة الجامعة لهم، وإن القوى الدولية والإقليمية تسعى إلى تجزئة وتقسيم المجزأ في جغرافية العرب وذلك لإدامة التبعية وتحقيق المصالح المتضاربة بين هذه القوى.
ومن جانب آخر، فإن شهوة الاحتراب عند النظام السياسي العربي متوثبة، وإن اليد العربية بدلاً من الانغماس في الإنتاج والعمل والتحصيل والعلم والمعرفة، هذه اليد تمسك السلاح وتتحاكم له وهي على أهبة الاستعداد والجاهزية للاحتراب والقتال وتحطيم المقابل ولإقصاء وتهميش كل مخالف.
إن هدم البنيان العربي آذن بزوال عمرانها وخراب ديارها وأفول أنظمتها واستشراء الفوضى فيها وتغلغل الخوف عند الدولة وعند المجتمع والناس؛ سيزيد من شهوة الإقصاء والاحتراب مع الذات، ربما إلى عشر سنين قادمة وإلى المجهول، فأعداد القتلى والجرحى والأسرى والمعتقلين وأرقام التراجع والفشل الاقتصادي والصحي والمجني معروفة وسهل تقديرها يومياً، لكن نتائجها مرعبة ومجهولة؛ لأن الحمية الجاهلية إذا تحكمت بالعقل السياسي العربي؛ فإن النتائج كارثية لا محالة.
وستكتب “بسوس” معاصرة يدونها التاريخ.
___________________________________
يُنشر بالتزامن مع مجلة “الأفق الإستراتيجي”.