حقاً لقد استمتعت بكتاب رائع في موضوعه ومحتوياته، رائد في أفكاره ومجالاته، هادف في مباحثه وغاياته، إنه “قصة بدء الخلق، وخلق آدم عليه السلام” لمؤلفه المفسر المؤرخ المفكر الدكتور علي الصلابي، الذي وفقه الله تعالى بفضله ومنه ليقدم إلى أمته هذا الغذاء الصافي من المنبع المبارك الكافي، القرآن الكريم الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[1]، فالقرآن الكريم وصفه الله تعالى بأنه النور والشفاء، والهداية المطلقة، والبرهان، والنور المبين، فهو {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[2]، إنه حقاً يهدي إلى الصراط المستقيم، ويخرج الناس من ظلمات الجهل والتردد إلى نور العلم واليقين.
هكذا كان يقيني بالقرآن العظيم، إنه تبيان خير لكل شيء تحتاج إليه البشرية، وازداد يقيني بهذا الكتاب الذي أزاح اللثام عن موضوعات في غاية الأهمية، خاض فيها العقل المادي فتاه في بعضها وتضاربت منتجاته في بعض آخر، واختلفت نظرياته حسب بدء الخلق، وفي خلق الإنسان وأجله، حتى وصل بعضها إلى نظريات لا تتوافق مع كرامة الإنسان وعقله، كما أن بعضها المتأخر ينسخ المتقدم، فقد كان أرسطو (ت 323 ق.م ) يظن أن الأرض قديمة ثابتة في مركز الكون، ثم جاءت نظرية النسبية العامة لعالم الفيزياء” إلبرت إينشتاين” سنة 1915م التي تقوم على أن الأرض متجانسة، ومتوحدة الخواص، وهو في حالة سكون، وغير قابل للتغيير، ثم تم التخلي عنها فيما بعد من خلال نظرية الانفجار العظيم”Big Bang” حيث توصل إليها صاحباها العالم الروسي” ألكسندر فريدمان” والعالم البلجيكي” جورج لوماتر”، حيث نجح فريدمان في حل معادلات نظرية النسبية واستنتج منها فكرة” تمدد الكون” ثم جاء العلماء الآخرون فأكدوا هذه النظرية التي تؤكد ما ذكره القرآن الكريم بصورة أدق، وهو قصة الفتق العظيم، فقال تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}[3]، وقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[4].
وفي قصة خلق الإنسان خاض فيها الكثيرون، وبخاصة دارون (ت 1882م) عام 1859م، حيث ادعى أن الحياة نشأت بمحض الصدفة، وأعلن عن نظرية النشوء والتطور، وأن الأساس فيها الصراع، وأن البقاء للأقوى الأصلح في نظره، واستغلها المستعمرون الذين زعموا أن العنصر الأبيض هو الأقوى والأصلح، وبُنيت عليها فلسفات مدمرة مثل النازية، والفاشيسيتية، كما أن الفلسفة المادية والإلحادية التي سادت أوروبا في القرن 19 إلى القرن العشرين قد احتضنت نظرية داروين لإنكار وجود الخالق، مع أن صاحبها لم يكن ينكر وجود الله تعالى، بل كان يدعي بأنه يؤمن بالخالق الذي وهب الحياة، ولكن الملحدين وجدوا في نظريته ضالتهم[5].
ولكن نظرية داروين قد انتقدت علمياً، ورد عليها كثير من العلماء من منطلق العلم، ومنطق المشاهدة والتجارب، حيث كشف العلم الحديث أن للكون الذي نعيش فيه نظاماً عاماً دقيقاً، ونظاماً بيئياً متزناً بدرجة متناهية من الدقة؛ ولذلك يستحيل أن يُخلَق بدون خالق مبدع مدبر منظم، فقد أثبت العلم نفسه بأن القول بأن الخلية الحية وجدت مصادفة وتطورت تلقائياً يتعارض مع قوانين الديناميكا الحرارية في الكيمياء الطبيعية، والتي تنص على أن الطاقة لا تفنى ولا تستحدث ـــ أي من جديد ـــ، كما أنها تقطع كذلك باستحالة وجود الماكينة التي تدور تلقائياً إلى ما لا نهاية[6].
إن أحدث ما وصل إليه العلم هو في مجال D N A والهندسة الوراثية، وعالم الجينات حيث يستحيل العقل أنها تكونت من غير خالق بارئ مصور، ولذلك أسلم بعضهم كما ظهر ذلك في الكتاب الرائع الذي سماه مؤلفه” الله يتجلى في عصر العلم”، كما أن الهندسة الوراثية تثبت أن الإنسام مخلوق مستقل، وكذلك جميع الكائنات الحية، بل إن البصمة الوراثية لكل إنسان مختلفة عن بصمة شخص آخر من بين مليارات البشر[7].
إن المصادفة لخلق جزء من خلية واحدة ــ حسب النتائج العلمية ـــ تحتاج إلى بلايين السنين، فقد قام العالم شارلر إيجين بحساب احتمال التكون بعامل الصدفة لجزئي بروتين واحد، فوجد أن هذا يمكن أن يحدث مرة في فترة زمنية لا تقل عن عشرة آلاف ومائتين وثلاث وأربعين مليون سنة، وهذا يزيد عن بلايين أضعاف عمر الأرض، وقام عالما الكيمياء” ماكولم ديكسون، وأيدوب” في عام 1962 م بحساب احتمال تكون جزيئ البروتين ذاتياً فوجدا أن هذا الاحتمال يحتاج إلى حجم من مخلوط الأحماض الأمينية المعروفة يصل إلى أضعاف حجم الكرة الأرضية بمقدار(5010) أضعاف حجم الكون كله، وتكررت هذه المحاولات في عام 1987م من العالمين”والاس،وسيمونيس” فتوصلا إلى مثل النتيجة السابقة[8]، وبذلك نسفت نظرية داروين في التطورـ حيث أعلن عالما الوراثة” والاس، وسيمونس عام 1987م استحالة المصادفة في خلق الحياة والكون فذكرا: إذا كان يصعب على الإنسان أن يتنبأ بطريقة قاطعة عن مسار كرة تهبط فوق سطح أكثر من مائة دبوس، وتنتهي بخمس عشرة فتحة، إذا كان التنبؤ هنا مستحيلاً، فكيف يمكن التنبؤ بمصير أكثر من 35 مليون نوع من الكائنات التي تتعايش حالياً مع بعضها مع الإنسان على ظهر الأرض؟
وقد أثبت العالم الأمريكي جوزيف كوهين أن نظرية داروين مليئة بالأخطاء، منها أن الحياة لا يمكن أن تنشأ من موارد كيميائية فقط، واستشهد بالحامض النووي للإنسان، وقدم العلماء الأمريكيون في عام 2009م دليلاً جديداً على بطلان نظرية داروين، من خلال اكتشاف الهيكل العظمي لمخلوق اسمه ” أردى” قبل أربعة ملايين سنة، حيث أثبتت دراستهم أن الإنسان لم يتطور من قرد[9].
وقد استطاع عالم التشريح راندل شورت الذي قضى حياته في دراسة تشريح جسم الإنسان أن يثبت خطأ التوافق الجنسي بين الإنسان والقرد الذي ذكره بعض علماء التشريح الذين زعموا أن جنين الإنسان مزود بفتحات خياشيمية زائدة، تمثل مرحلة تطور الإنسان من الحيوانات المائية كالأسماك، فرد علي هذه النظرية راندل بالأدلة العلمية بأن ما يسمى بفتحات خياشيمية ليست زائدة، بل هي عبارة عن ثنيات في الأنسجة لازمة لتثبيت الأوعية الدموية في جنين الإنسان، ولكون هذا التفنيد قطعياً اضطر جوليان هاكسلي في كتابه عن التطور للتسليم بما أثبته راندال، كما أن فريقاً من علماء أنتربولوجي مكوناً من عشرة علماء مختصين بقيادة ( Tim White) الأستاذ بجامعة كاليفورنيا بيركلي عام 1987م قاموا بفحص 302 من هياكل وعظام الحفريات لبقايا ما يسمى بالإنسان لما قبل التاريخ لأكثر من مليون ونصف مليون عام، فنشروا نتائج بحوثهم التي دلت على عدم الارتباط بين الحالي والكائنات السابقة حتى ما سمي بإنسان ما قبل التاريخ، حيث إن الإنسان اليوم متميز تماماً ظاهرياً وتشريحياً، وسلوكياً وقدرات، وعقلاً ، وملكات عن أي كائن آخر[10].
وهذا ما أثبتته الاكتشافات العلمية الجديدة لخريطة الجينات، حيث دلت قطعياً على أن كل إنسان متميز عن الإنسان الآخر في صفات فردية لا تتكرر، مثل بصمات أصابع اليدين والقدمين، والحامض النووي D N A ، كما أثبت علم البيولوجيا الاجتماعية بأن الإنسان كائن مستقل، ليس وليد التطور، وأن له مميزات لا توجد في أي كائن آخر.
بل كلما تقدمت العلوم ازداد تجليات الله، والقرآن الكريم فمثلاً نجد عالم الكيمياء الأمريكي(Linus Pauling) الحائز على جائزة نوبل عامي 1952، 1962م ذكر في احتفال أقامته الجمعية الكيميائية الأمريكية عام 1983م قال في كلمته:” إن يهتم بالعمل على التقدم المستمر للمعرفة الإنسانية، وأنه يعتبر أن هدف المعرفة يجب أن يكون معرفة الله، بعيداً عن أي طواغيت أخرى، وأنه بذلك يمكن أن يتحقق الالتقاء بين العلم والدين؛ لضمان تحقيق عالم أفضل”.
وذكر العالم الأمريكي (Maxwell) في كتابه” العلم يعود إلى الله” عام 1970م أن نظرية داروين قد استنفذت أغراضها في زمن إعلانها؛ لأنها قد أصبحت لا تتلاءم مع مستجدات العلم في القرن العشرين[11].
بدء الخلق فيه كثير من الغيبيات
والحق ديناً وعقلاً وعلماً أن نشأة خلق الكون والكائنات الحية فيها كثير من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، فقال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}[12]، وقال سبحانه: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}[13]، وهذا لا يمنعنا من وجوب البحث، ولكن يجب علينا أن نستفيد من هذه المعلومات الخالصة الدقيقة من كتاب ربنا، ونستثمر عقولنا فيما يمكنه العقل، فقد أظهر الأخ الدكتور الصلابي كل هذه المعلومات الكثيرة العظيمة الدقيقة المتوافرة في القرآن الكريم، فلو بنى عليها علماؤنا، ثم دخلوا في غمار استكشاف المزيد لخدمة الإنسانية وتعمير الكون كانت أمتنا اليوم هي ما أراده الله لها بأن تكون خير أمة أخرجت للناس، وتكون أمة الشهود الحضاري، وأمة التقدم مع الحفاظ على أخلاقيات العلم في تعاملها مع البيئة ومع الحقائق العلمية، حيث يعاني العالم كله من الأزمة الأخلاقية.
الكتاب يثبت تقصير الأمة الإسلامية
إن الإنسان المنصف ليقف بإجلال وتعظيم أمام هذه المعلومات الكثيرة الدقيقة والمفصلة المتوافرة في القرآن الكريم التي عرضها مؤلف الكتاب الدكتور الصلابي، حيث لم يترك القرآن شيئاً يتعلق بخلق الكون وكيفية تكونه، وبخاصة ما يتعلق بخلق الإنسان الأول، سيدنا آدم عليه السلام، وكل ما يدور في فلكه.
فلو كان علماء المسلمين اعتمدوا على هذ المعلومات الدقيقة، ثم طوروا أفكارهم وعلومهم المتعلقة بطبيعة الكون، وخصائصه، ووجهوا جهودهم نحو استكشاف الحقائق العلمية، والابتكارات لكان لأمتنا السبق والفضل، ولتحققت لها الخيرية التي يريدها الله تعالى لها في الدنيا والآخرة.
مصدر إضافي حول الطبيعة
إن أمتنا تمتاز بمصدر معرفي في مجال الطبيعة موثوق لا يوجد لدى الأمم الأخرى، لذلك كان من المفروض أن يكون أكثر تقدماً من غيرها؛ لأنها تشترك مع جميع الأمم في مصادر المعرفة المتمثلة بالعقل والحواس، والتجارب، لكنها مع الأسف ــــ في القرون الأخيرة ـــ لم تستفد لا من ذلك المصدر الصافي الاستفادة المطلوبة في المجال العلمي والمعرفي، ولا من المصادر الأخرى كما هو الحال لدى الأمم المتقدمة.
والخلاصة أن الكتاب موسوعة معرفية شاملة جامعة حول قصة بدء الخلق، وخلق آدم عليه السلام، ملأت فراغاً كبيراً من مثل هذه الدراسات الجامعة، ويحتاج إليها كل باحث في الإحاطة بقصة بدء الخلق، وخلق آدم عليه السلام، كما يحتاج إليها كل من يريد اكتشاف معالم جديدة عن حقائق القرآن العظيم، ويستفيد من إشعاعاتها، وكذلك لا يستغني عنها مفسر ولا مؤرخ ولا مفكر.
فجزى الله خيراً مؤلفها الأخ الحبيب المفسر الأديب، والمؤرخ الرتيب الدكتور علي الصلابي حفظه الله، وبارك فيه، ووفقه للمزيد من الكتب النافعة للأمة الإسلامية، بل للإنسانية جمعاء، والمؤلفات الهادفة لخدمة القرآن الكريم وعلومه. آمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] – سورة فصلت (42)
[2] – سورة البقرة (185)
[3] – سورة الأنبياء (30)
[4] – سورة الذاريات (47)
[5] – الموسوعة الحرة، ويكيبيديا، مصطلح تطور الإنسان، ود. عبد الخالق حامد السباعي، بحثه القيم المنشور في مجلة رابطة العالم الإسلامي العدد (21) والمنشور أيضاً في موقع رابطة العالم الإسلامي، مع مصادره المعتمدة.
[6] – د. السباعي: المرجع السابق.
[7] – يراجع: أ.د. محمد حافظ: مدخل لدراسة الهندسة الوراثية، نشر طب المنصورة، ص 30، ود. كيث مولر: علم الأجنة في الكتاب والسنة، طبعة هيئة الإعجاز، ص 20، و د. محمود نجا: بحثه حول حديث القرآن والسنة عن الحامض النووي في الأمشاج، المنشور في موقع إعجاز القرآن والسنة، في ديسمبر 2019م
[8] – د. عبد الخالق حامد السباعي: بحثه القيم: الخلق بين الحقائق القرآنية والنظريات البشرية، المنشور في موقع رابط العالم الإسلامي، ومصادره المعتمدة الكثيرة، والمنشور أصلاً في العدد (21) من مجلة الرابطة، وهناك أكثر من 50 كتاباً في الرد على نظرية داروين عليماً من مسلمين وغيرهم.
[9] – موقع الجزيرة، وتعليق النجار على ذلك في 3 / 10 / 2009م
[10] – المرجع السابق مع مصادره المعتمدة، والموسوعة الحرة، ويكيبيديا، مصطلح: تطور الإنسان.
[11] – المراجع السابقة مع مصادرها المعتمدة.
[12] – سورة الكهف (51)
[13] – سورة يونس (36)