يوم الأربعاء 19 أغسطس 2020م، استقبل الانقلابي خليفة حفتر بمقره في الرجمة، خارج مدينة بنغازي شرقي ليبيا، مدير جهاز الاستخبارات الحربية المصري اللواء خالد مجاور، وقيل: إن مجاوراً سلم حفتر رسالة وصفت بـ«المهمة»، وبعدها بساعات أعلن حفتر فتح موانئ تصدير النفط.
ثم توالت الأحداث حتى أصدر رئيس مجلس السيادة فايز السراج، ورئيس نواب برلمان طبرق عقيلة صالح، بيانين متشابهين –مع 5 اختلافات- يتحدثان فيهما عن وقف إطلاق النار والسعي لانتخابات رئاسية وبرلمانية في ليبيا، فما خفايا وقف إطلاق النار في ليبيا والاتصالات السرية ونقاط الخلاف الخمس؟
ماذا جرى؟
قبل الخطوة الأخيرة بوقف إطلاق النار، جرت عدة أحداث متتالية ومترابطة ربما تشرح لنا ماذا جرى في الكواليس، وتعطي الصورة كاملة في المشهد الليبي:
– فقد أجرى سفير أمريكا في ليبيا لقاءات مكوكية بين طرابلس وبنغازي، والتقى عقيلة صالح في القاهرة أخيراً، وتم الاتفاق على حل سلمي وعلى منطقة منزوعة السلاح.
– نفس السفير الأمريكي زار أنقرة، وأكد أن دور تركيا كان مهماً في ليبيا، والتقى فايز السراج، رئيس مجلس السيادة الليبي.
– حدث تغير في لهجة أردوغان تجاه مصر، وتحدث عن تقارب بين وجهات النظر بين تركيا ومصر في ملف المتوسط، وقال متحدث الرئاسة التركية: إن مصر يمكنها أن تقوم بدور بنّاء في ليبيا ولن نصطدم بها.
– حدثت زيارة قوية من 3 وزراء لطرابلس (وزيرا دفاع تركيا وقطر، ووزير خارجية ألمانيا) ولقاءات مكثفة وموسعة ووعود وتطمينات.
– أعقب هذا رسالة قوية من مصر عليها شعار “مهم جداً”، وربما “سري”، تصل لحفتر، يقال: إنها تحمل أوامر بالتهدئة وفتح موانئ النفط كي يتم إعلان طرابلس وقف هجومها على سرت ووقف إطلاق النار.
– قرر حفتر فتح الموانئ النفطية دون قيد أو شرط بعدما وصلته الأوامر من الكفيل المصري.
تسوية على نار هادئة
كان من الواضح بالتالي أنه تجري تسوية على نار هادئة لوقف إطلاق النار، وأن محادثات وزيري دفاع قطر وتركيا مع فائز السراج، رئيس حكومة «الوفاق»، وزيارة وزير خارجية ألمانيا لطرابلس ومن قبلها لقاءات السفير الأمريكي في ليبيا مع أطراف النزاع المختلفة، هي مقدمة للتهدئة والبيانين اللذين أعلنهما السراج، وصالح.
وكان من الواضح أيضاً أن المحادثات التي أجراها السفير الأمريكي بليبيا في زيارته لمصر، وما تبع ذلك من نقل رسالة مهمة لحفتر تدعوه للتجاوب مع المطالب الدولية والأمريكية لإعادة استئناف النفط، كي تقبل حكومة طرابلس وقف القتال وتجميد هجومها على سرت.
فالجميع أصبح يدرك أن الحسم العسكري بات صعباً في ظل دعم تركيا حكومة طرابلس الشرعية بقوة السلاح وتدريب جيشها وتطويره، وفي ظل الحشد الروسي في سرت والجفرة الساعي إلى منع سيطرة حكومة طرابلس على سرت والجفرة، واستمرار حشد مرتزقتها مع مرتزقة أفارقة.
قلق مصري من نفوذ تركيا
أيضاً حفتر بات “كارتاً” محروقاً بالنسبة لمصر، وعلى العكس هناك قلق مصري من أن مغامرات حفتر لغزو العاصمة وفشله واندحاره تسبب في تهديد لأمن مصر بعدما بدأت تركيا تسعى لتشييد قاعدة جوية وأخرى بحرية في ترهونة ومصراتة، حيث ترى القاهرة أن اتفاقاً للسلام قد يُحجم النفوذ التركي.
هناك بالتالي قلق مصري من تواجد تركيا في ليبيا وتأثيره على مصالح مصر الإستراتيجية، وهو ما جسّده إعلان مصدر مصري مسؤول قبل أيام، أن ما تردد عن وجود اتفاق قطري تركي لتحويل ميناء مصراتة الليبي لقاعدة عسكرية تركية يعد تجاوزاً وتهديداً للمنطقة بأكملها.
حيث نقلت “وكالة أنباء الشرق الأوسط” الرسمية، وهي الوكالة المصرية الرسمية، عن المصدر الذي لم تسمه قوله: إنه يبدي استغرابه لما يتردد عن تحويل مدينة مصراتة الليبية إلى قاعدة عسكرية تركية عقب زيارة وزيري الدفاع التركي والقطري إلى العاصمة الليبية طرابلس.
وأشار إلى أن أي قرار في هذا الصدد يعد خروجاً عن المنطق الذي بني عليه اتفاق “الصخيرات”، وعلى قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وسيكون تهديداً لاستقرار منطقة البحر المتوسط برمتها شمالاً وجنوباً، وتزيد من المخاطر على استقرار المنطقة والأمن والسلم فيها.
5 خلافات قد تنسف الاتفاق
لا يعني هذا أن البيانين المتزامنين اللذين أصدرهما رئيس المجلس الرئاسي الليبي فائز السراج، ورئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح، ويعلنان فيه وقفاً شاملاً لإطلاق النار، وفتح الحقول والموانئ النفطية، سينهي الصراع رغم الضغوط الدولية، فقد ظهرت هناك خلافات في البيانين، كما أن حفتر قد يستغل التهدئة لحشد قواته.
البيانان، اللذان نشرا الجمعة 21 أغسطس، يتضمنان عدة نقاط مشتركة، لكن بالمقابل فيهما عدة نقاط ظلت أشبه باشتراطات من كل طرف، وهذا ما يفسر عدم صدورهما سوياً، فما هي أبرز نقاط الخلاف؟
أولاً: ترسيم وقف إطلاق النار
بعد وقت وجيز من إصدار السراج تعليماته لجميع القوات العسكرية التابعة له بالوقف الفوري لإطلاق النار وكافة العمليات العسكرية في كل الأراضي الليبية، أعلن قائد غرفة عمليات سرت والجفرة العميد إبراهيم بيت المال امتثاله لأوامر رئيس المجلس الرئاسي، بصفته القائد الأعلى للجيش الليبي.
بينما طلب صالح، الذي لا يملك سلطة فعلية على مليشيا الجنرال الانقلابي خليفة حفتر، من “الجميع” (دون تحديد)، الوقف الفوري لإطلاق النار وكافة العمليات القتالية في جميع أنحاء البلاد.
ولم تعلن مليشيا حفتر على الفور موافقتها على وقف إطلاق النار، رغم أن المعارك توقفت فعلياً منذ يونيو الماضي.
ثانياً: فتح حقول النفط وتجميد إيراداته
بينما شدد السراج على ضرورة أن تشرف المؤسسة الوطنية للنفط وحدها على تأمين الحقول والموانئ النفطية في كامل البلاد، تجاهل صالح هذه النقطة، خاصة وأنها تعني سحب ورقة مهمة من مليشيا حفتر للمساومة عليها.
صحيح أن إعلان مليشيا حفتر موافقتها على تصدير النفط ومنتجاته المخزنة في الموانئ النفطية، ورفضها في الوقت نفسه استئناف إنتاج النفط، حل إشكالاً كبيراً بالنسبة للتصرف بأموال النفط، الذي كانت مليشيا حفتر تعترض على إيداعه في البنك المركزي الليبي، حتى لا تتصرف فيه الحكومة الشرعية، وتطالب بتوزيعها بشكل عادل على جميع المناطق.
ولكن وفق البيانين، سيتم إيداع الإيرادات في حساب خاص لدى المصرف الليبي الخارجي (التابع للبنك المركزي الليبي)، ولا يتم التصرف فيه إلا بعد التوصل إلى تسوية سياسية.
ثالثاً: سرت فقط منزوعة السلاح لا الجفرة
تضمن البيانان ما يشبه التوافق على أن تتولى قوة شرطية من الطرفين عملية تأمين مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس).
ما يعني جعل سرت منطقة منزوعة السلاح، وإخراج مليشيا حفتر ومرتزقة شركة “فاغنر” الروسية والمرتزقة الأفارقة منها.
لكن في هذه المسألة يوجد تباين كبير بين الطرفين، إذ يشدد السراج على أن وقف إطلاق النار يقتضي أن تكون سرت ومحافظة الجفرة (300 كلم جنوب سرت) منزوعتي السلاح.
إلا أن صالحاً لم يُشر البتة إلى نزع السلاح من الجفرة وقاعدتها الجوية الإستراتيجية (650 كلم جنوب شرق طرابلس)، كما لم يتحدث عن نزع السلاح في سرت، وإن فهم ذلك ضمنياً، رغم أن تصريحات سابقة له تتحدث عمّا يمكن تسميته “إعادة انتشار خارج المدينة” وليس خارج محافظة سرت.
كما اشترط رئيس برلمان طبرق أن تكون سرت مقراً للمجلس الرئاسي الجديد، وهو ما لم يعلق عليه السراج سلباً أو إيجاباً، وإن كانت الموافقة على هذه المسألة مستبعدة، لأنها تضع أعضاء المجلس تحت نفوذ مليشيا حفتر.
والمجلس الرئاسي الجديد الذي يتحدث عنه صالح يضم ممثلاً عن كل إقليم من الأقاليم الثلاثة، بدل المجلس الرئاسي الحالي المشكّل من 9 أعضاء (انسحب منهم 4).
رابعاً: خروج المرتزقة واستعادة السيادة
رغم أن الطرفين متفقان على ضرورة خروج المرتزقة من البلاد، لكنهما يختلفان في تحديدهم.
فرئيس المجلس الرئاسي أوضح أن الغاية النهائية من وقف إطلاق النار “استرجاع السيادة الكاملة على التراب الليبي وخروج القوات الأجنبية والمرتزقة”.
أما رئيس برلمان طبرق فاعتبر أن وقف إطلاق النار “يقطع الطريق أمام التدخلات الأجنبية وينتهي بإخراج المرتزقة، وتفكيك المليشيات، ليتحقق استرجاع السيادة الكاملة”.
خامساً: نعم للانتخابات، لكن متى؟
اتفق الطرفان على أن الهدف من هذا التوافق الوصول إلى انتخابات للخروج من المراحل الانتقالية، لكن الاختلاف بين رؤيتيهما ما زال واسعاً، إذا أمعنّا فيما وراء السطور.
فالسراج يدعو إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية في مارس 2021م، أي بعد نحو 7 أشهر من الآن، وهي فترة قصيرة لا تسمح بتغيير المجلس الرئاسي الحالي؛ ما يعني رفض مبادرة صالح، التي تضمنها إعلان القاهرة، المتمثلة في انتخاب 3 أعضاء من الأقاليم الثلاثة (طرابلس وبرقة وفزان).
أما مبادرة صالح فتقترح مرحلة انتقالية جديدة تمتد بين 18 إلى 24 شهراً؛ أي أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في هذه الحالة لن تجرى إلا في عام 2022م، على أقل تقدير.
فالسراج يريد الخروج من المراحل الانتقالية التي استمرت 9 سنوات، في حين يسعى صالح للدخول في مرحلة انتقالية جديدة قد تطيل الأزمة لسنوات أخرى.