ياسر كمال الغرباوي
بحكم اهتمامي بقضايا مقاومة الفتنة والانقسام جاءني هذا السؤال المهم والعميق من بعض الشباب النابهين وهو: كيف يمكن أن يحتضن الإسلام غير المسلمين وآياته تقول: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}، ويقول: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}، ويقول {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم}؟
وللإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نعلم أولاً أن الآيات القرآنية التي وردت عند التعاطي مع الآخر المخالف في المعتقد تنقسم إلى ثلاثة أنواع:
الأولى: تعرض العقائد.
الثانية: تثبت الحقائق.
الثالثة: تقرر الحقوق.
من خلال هذا التقسيم تكون إجابة السؤال وفق التالي:
فالآية التي تقول {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} نجدها تقع في الصنف الثاني من الآيات (إثبات الحقائق)، وتوضح نوع العلاقة بين اليهود والنصارى والمسلمين من حيث الرضا القلبي والوجداني خاصة في فترة النبي صلى الله عليه وسلم، والآية الثانية التي تقول {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم} تعرض الصنف الأول من الآيات (عرض العقائد)، وهي الخاصة ببيان موقف الإسلام من عقائد وقناعات الآخرين؛ فهذه الآيات السابقة عرضت لنا بعض الحقائق والعقائد الخاصة بالمخالفين للإسلام من اليهود والنصارى وموقف القرآن منها؛ فهل معنى عرض عقائد الآخرين في نظر الإسلام وعدم رضاهم عن الإسلام كدين مسوغ للعداء والصراع والإقصاء لهم؟.
ولكى تتضح الصورة الكلية لا بد من النظر إلى الصنف الثالث في التقسيم والتعرف على فلسفته (آيات الحقوق)؛ فالله سبحانه وتعالي يقول: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}؛ فهذه الآية تنتمي للصنف الثالث الخاص بحقوق غير المسلمين؛ فالنص القرآني هنا أقر وطلب من المؤمنين به مراعاة حقوق المخالفين له في العقائد والحقائق؛ إذ أوجب على المسلمين صيانة هذه الحقوق؛ فلا بد أن تصان وتُراعى ولا يُنتقص منها، وأباح أيضا للمسلم أن يكون جد أولاده يهودياً أو مسيحياً، وأن تكون زوجته مسيحية أو يهودية، فلو كانت آيات العقائد والحقائق تعني الصراع والإقصاء والتهميش والإهانة فكيف يبيح للمسلم أن ينشئ أسرة متنوعة الانتماء العقدي؟
الخلط المتعمد في آيات غير المسلمين
لذلك فالخطاب الديني المتشنج ينبع من الخلط المُتعمد بين مساحات الآيات الثلاث (آيات العقائد وآيات الحقائق وآيات الحقوق) حيث يستدعي البعض الآيات التي تتناول العقائد والحقائق كذريعة؛ ليهدم بها الحقوق الإنسانية والكرامة البشرية للمخالفين له في الاعتقاد والإيمان!! ومن هنا ينبع سوء الفهم واضطراب الأفكار وتوتر المشاعر الذي يقود إلى معارك طاحنة تشوه رسالة الإسلام وطبيعة الدين، وتضر بالاجتماع الإنساني وبماء الهوية الوطنية الجامعة التي يجب أن تتسع لكل أبناء الوطن.
فعادة المتعصبين والمُحرضين أنهم يحرصون على حشد وتجميع الآيات القرآنية التي تشرح الحقائق النفسية والعقائدية المُتعلقة بالآخر المخالف، ويتغافلون عن بسط وشرح الآيات التي تتحدث عن حقوق الآخر المخالف ووجوب البر والقسط والرحمة به، واحترام حقه في الحياة بكرامة، وحرية اختياره لدينه ومذهبه، ومن خلال هذا الحشد المتعمد للصنف الأول والثاني من الآيات ينطلقون نحو بث روح الطائفية والانقسام في المجتمعات باسم القرآن والدين، وهذا خطر كبير.
لذلك ينبغي الاستفادة من تقسيمنا السابق الخاص بتصنيف آيات القرآن في التعاطي مع الآخر (آيات العقائد، آيات الحقائق، آيات الحقوق) في تفكيك التعصب والفكر المتطرف الذى يستند على نظرة جزئية لبعص النصوص المُقدسة، ويستخدمها بدون فهم ولا إطار جامع يربط بينها؛ فهذا التقسيم السابق للآيات عندما يكون حاضراً في ذهن النخب الدينية والثقافية والإعلامية بشكل واضح لن يقع المجتمع فريسة سهلة للتعصب؛ لأنه يُدرك أن النسق القرآني متماسك ولا يضرب بعضه بعضا، وأن ورود آيات تشرح وتوضح عقائد الآخر المخالف وطبيعته النفسية لا تعني بأي حال من الأحوال الانتقاص من حقوقه والنيل منه.
ومن خلال ما سبق يتضح لنا أن الإسلام وكتابه الخالد القرآن قادر على التعايش مع الآخر المخالف بكل رحابة صدر وتواصل بدون تمييز أو إقصاء أو تهميش.
* المصدر: مدونات الجزيرة (بتصرف يسير).