كنت في باكورة شبابي أطربُ كثيراً لما كنا نردده في مؤتمراتنا الطلابية في الجامعة، وفي أناشيدنا في المساجد حول حتمية استعادة الأندلس للحكم الإسلامي كما كانت، بل وعودة كل الدول التي حكمها المسلمون حيناً من الزمن في البلقان وجزر البحر الأبيض المتوسط وغيرها إلى حكم المسلمين مرة أخرى.
وفي طفولتي كنت أشعر بالزهو وأنا أستمع لغناء البحارة في مدينتي الإسكندرية: “البحر بحرنا عن أبونا وجدنا.. وبكره والا بعده حيبقا ملكنا!).
أغنية البحارة كانت تأخذ مكانها كأغنية فلكلورية، أما الأولى فكانت بمنزلة العقائد التي يهون في سبيلها بذل الأرواح وكل غال ونفيس.
أراجع نفسي الآن في هذه الفكرة، بعد مسيرة عمر كانت تموج بالأفكار، ثبت منها أفكار وتغير منها أكثر مما ثبت، وأسأل نفسي الآن: هل ما كنت أعتقده سابقاً من بذل الغالي والنفيس من أجل عودة المسلمين لحكم بلاد كانوا يحكمونها في الأمس البعيد، هو فكرة صائبة؟
لا شك أن كل مسلم مخلص لدينه محب للبشر يتمنى لو اعتقد كل إنسان ما يعتقده، ويتمنى أن يكون داعياً يساهم في بلوغ رسالة الإسلام ما بلغ الليل والنهار، ولكن هل سبيل هداية الناس وتبليغ دعوة الإسلام وسيلته في عصرنا هي استعادة تلك الأراضي والبلاد لحكم المسلمين؟
بالتأكيد تغير الزمان وتغيرت المفاهيم، وصارت تلك البلاد مفتوحة لاستقبال أي دعوة كانت، وحرية العبادة للمسلمين المقيمين فيها مكفولة، وحرية تبليغهم لدعوتهم مكفولة.
وصار لزاماً على المسلمين فرادى وجماعات أن يفكروا ويعملوا على بناء جسور التواصل والبحث عن القيم المشتركة بينهم وبين عموم البشر أياً كانت جنسياتهم ومعتقداتهم، بل وإعادة النظر في انفصال الأقليات الإسلامية عن الدول التي ينتمون لها، ما لم يكن هناك دواعٍ تتعلق بسلب حقوقهم الدينية، وعليهم دراسة هذا الأمر وفق مصالحهم الآنية والمستقبلية.
فالمراجعة الفكرية المطلوبة هنا ليست فقط مراجعة فكرة (استعادة ما استلب من أرض المسلمين)، بل صياغة خطاب عصري يعبر عن فكرة الإسلام الحقيقية القائمة على التعايش والتعارف، وحرية الاعتقاد، وحفظ الكرامة الإنسانية، وحرمة التعدي على غير المعتدي.