وأنا أسطر هذا المقال أستبيح القارئ الكريم عذراً حيث تسبق عواطفي عقلي ويتحرك وجداني عبر حروف الكلمات قبل فكرى وتقديري.
وأستأذن القارئ أن تمتزج في الحرف المقدس حكمة العقل بتدفق العواطف، وأن تسمو حروف الاسم العظيم “محمد” فوق اعتبار المكان والمكانة لتسبق في القلب والوجدان، ولتنطلق سيلا بالحب لهذا النبي العظيم تعبيرا عن قلوب كل المؤمنين به ولو كره الكافرون والحاقدون، الكلمات عنه وفيه تتدفق وكأنها مطر يملأ الأرض رياً بعد ظمأ، ودفئا يملأ الحياة حيوية بعد برد قارس يشل الحركة ويجمد الأعضاء ويعطل الحياة.
في عالم الكتابة عادة تسبق المعاني كل الكلمات لأن الكلمة تأتى تعبيرا عن معنى يخطر في الذهن فيعبر عنه بالحروف المكتوبة كلمات تكون ميتة أو حية حسب المقام التي قليت فيه.
والكلمة لا تستمد قوتها من فصاحة صاحبها أو جزالة لفظها ورقتها وجمالها فقط، وإنما تستمد قوتها من صدق صاحبها أولا فيما يقول، ثم تستمد بقاءها وخلودها ممن قليت له أو قيلت فيه، ومن ثم فكلمة الحق في وقت الرخاء غيرها في وقت الشدة، وقولها بين الأصدقاء والندماء والصحبة غير قولها على الملأ الذي يملأ أعين الناس ويمتد بها ليسمع كل أحد، ولذلك كانت أعظم الجهاد حين تقال عند حاكم ظالم، لأن صاحبها في ذلك الوقت كان كله لله ولم يذب في شخص حاكمه أو يتلاشى كما يتلاشى الظل والهباء.
وفي حالات معينة ومحدودة جدا قد تسبق الكلمات كل المعاني وكأنها كانت في الخاطر مختزنة ومرتبة ومعروفة، وكأن معانيها التي تعبر عنها مقررة بين الخلائق ومرئية أمام أبصارهم وبصائرهم.
وفي الحديث عن سيدي ومولاي رسول الله محمد تبادرني حقيقة تملأ الزمان والمكان والوجود كله والكون كله، إنها حقيقة كتبتها أقدار الله تقديرا وتكريما لهذا لنبي العظيم تهتف بي قبل الكتابة ومع الكتابة وبعدها “ماذا ستقول كلماتك يا رجل بعدما قال الله فيه وقال الله له”: (وإنك لعلى خلق عظيم).
ومن هذه الحقيقة أنطلق مستهدياً ومسترشداً ومستنكراً أن توضع “شارلي إيبدو” في مواجهة النبي العظيم.
شارلي هي التخلف، وهي البلادة، وهي الجاهلية، وهي العنصرية البغيضة، وهي الكراهية.
شارلي هي جاهلية القرون الأولى تبعث من جديد برسوم وقلم وجرنال، وأصحابها هم أبو لهب وأبو جهل وأبو المظالم والمكاره وأبو الفساد والعته، هم كل هؤلاء في ثوب جديد يرتدى بدلة أنيقة ورباط عنق مزخرف بالزيف والافتراء والغش والتدليس واحتقار العقل الإنساني.
أما محمد فهو هنا في العقل حين يدرك، وهو هناك في القلب يحين يؤمن ويحب، وهو هنالك في عالم البصيرة حين تهتدي لرشدها ونهاها وهو في العلا بين عالم العظماء سماء ما طاولتها سماء، فكيف يوضع في مقابل هؤلاء؟
أما محمد فهو الذي بنى حضارة وأسس للأخلاق قواعد وللعدل نظاما وللحرية قانونا وللإنسانية قيمة.
أما محمد فهو الرجولة كلها، وهو البطولة كلها، وهو الرحمة كلها، وهو المحبة كلها، وهو العفة كلها، وهو الهداية كلها، وهو البصيرة كلها، وهو البهجة كلها، وهو الإنسانية كلها في أرقى معانيها وأعظم تجلياتها.
أما محمد فهو البر كله، وهو الخُلُقُ كله، وهو الوفاء كله، وهو الصدق كله، وهو الحياء كله، وهو الطُهر كله، وهو العطف كله، وهو الفضل كله، وهو الخير كله، وهو النور كله، وهو الإشراق كله، وهو السرور كله، فكيف يوضع في مقابل هؤلاء؟
هؤلاء دعاة لجهنم بينما هو يدعو إلى دار السلام وينقذ الناس من النار ويهدى إلى البر ويدل الناس على الصراط المستقيم ويبنى في الإنسانية خلقها القويم ويمنح الحياة المعوجة كل أساب الاستقامة وكل موازين الاعتدال فكيف يوضع محمد في مقابل هؤلاء؟
الموتى لا يٌهاجمون وإنما يُهاجم الأحياء، ومحمد حي في كل المؤمنين، حي بقيمه، حي فيهم بكتابه وسنته الطاهرة، وسيرته الشريفة، حي بمنهجه وإن لم يطبقوه.
هو حي يعيش في كل وجدانهم، ويجلس فوق عرش كل قلوبهم، وكلهم يفتدونه بآبائهم وأمهاتهم وأولادهم وأرواحهم، وهو أولى بهم من أنفسهم، فكيف يفهم هؤلاء كل تلك المعاني وقلوبهم في أكنة، وأرواحهم محجوبة، وعلى أبصارهم غشاوة؟
أما محمد فهو هنا وهناك وهنالك، وهو ملء الزمان والمكان، وملء الوجود والكون، فكيف يفهم هؤلاء تلك المعاني وهم في غيهم وغيبتهم وغيبوبتهم.
أما محمد فهو ذلك الأفق العالي الذى يمنح الحياة قيمتها ومعناها ويهدى إليها رشدها وهداها ويفتح بتعاليمه بصرها وبصيرتها لترى الحقائق دون تعصب، وترى الناس على أنهم خلق الله وعياله دون تفريق أو تمييز أو تحقير، و ترى الكون ومفردات الطبيعة وعناصر الوجود على أنهم أصدقاء لنا، نتفاعل معهم، ونحبهم ويستجيبون لنا، لأنهم رفاق لنا في العبودية وشركاء لنا في الخضوع لمعبود واحد، ومسخرون بأمره لخدمتنا، ومحمد في هذا الجو المفعم بالمحبة يبسط يده بكل ألوان الهداية واليسر والعدل والمرحمة.
أما محمد فهو معنا، وهو لنا، وهو منا، ونحن به نؤمن، وبه نفخر، وله ننتمي ونعتز، وبتعاليمه نتمسك، وبه وحده قد عرفنا الطريق، وبه وحده ارتفعت هاماتنا وثبتت أقدامنا وتطاولت إلى عنان السماء أعناقنا، وبه وحده عرفنا ربنا وسلكنا طريقنا وحددنا هنا في هذا الوجود أهدافنا، وعرفنا به مستقرنا ومستودعنا ومصيرنا ومأوانا، وخلفه نسير إلى الجنة بخطوات مسددة، فهل يستوي من كان تابعا له ومحبا ومن يمشى مكبا على وجهه؟ فكيف يوضع محمد في مقابل هؤلاء.
هؤلاء هم الصغار كله، وهم الغضب كله، وهم القهر كله، وهم الجشع كله، وهم الشهوات كلها وهم الظلم والظلمة كلها.
أما محمد فهو ذلك النبع الأخلاقي المتدفق صفاء ونقاء وطهرا وسموا، فكيف يوضع محمد في مقابل هؤلاء؟
كيف يوضع الرماد في مقابل الذهب، وكيف يوضع الظلام في مقابل النور؟ وكيف يوضع الباطل في مقابل الحق؟ وكيف يوضع الموت في مقابل الحياة وهي في أرقي صورها؟ اللهم إلا إذا ارتضينا مبدأ تمايز الأشياء بنقائضها وأضدادها.
صحيح أن الأشياء بضدها تتمايز، فلا تعرف قيمة العدل إلا بوجود المظالم، ولا تعرف قيمة الحرية إلا بوجود الاستبداد، ولا تعرف قيمة العزة إلا بوجود المذلة، ولا تعرف قيمة النور إلا بوجود الظلمات، ولا تعرف قيمة الأمانة إلا بوجود الخيانات، ولا تعرف قيمة الجنة إلا بوجود الجحيم، هذا صحيح بضدها تتميز الأشياء، لكن محمدا ليس شيئا.
إنه نبي شريف أعلى الله قدره وشرف الله ذكره وقرن صدق الإيمان به بالشهادة له بالنبوة والرسالة، وختم به وبرسالته آخر اتصال للسماء بأهل الأرض، وأعطى به الدنيا وثيقة رشدها وكمال نضوجها، فلم تعد في حاجة إلى رسول آخر أو إلى كتاب آخر، ووصفه سبحانه بأنه علي خلق عظيم ومن ثم فهو الذى وضع لنا معايير المعرفة الحقيقية لكل قيمة، ولك فضيلة، ولكل خلق، ومنه وبه تعلمنا أن الأشياء بضدها تتمايز.
لذلك لا يوضع محمد أبداً في مقابل “شارلي”.
إن الواقع يرفض، والحقائق تأبى، والتاريخ لا يقبل، والزمن يغضب، والحق يصرخ هاتفا لا تفعلوه، محمد ليس في مقابل هؤلاء.
لذا كله نرفض التقابل والمقارنة، ونرفض المساومة والاستهتار والمهانة والسقوط الأخلاقي والحضاري فهل تفهمون يا قوم؟
وختاماً:
فمحمد باق ما بقيت دنيا الرحمن، وسيعلو دوما صوت الله ولو كرهوا في كل زمان ومكان
سمونا للسماء فنازعـتنا هواتـفنا إلى الأفــق البعـيد
ومن عشق السماء فلا تلمه إذا رفض النزول إلى الحضيض
فهل تفهمون يا قوم؟
_____________________________________
(*) عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والمفتي العام للقارة الأسترالية.
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين