يمكن تعريف التغريب بأنه تطبيع الأغيار بطابع الغربيين بهدف استتباعهم للغرب، والغرب هنا يكاد يتركز في دول أوروبا الكبرى بامتداداتها في أمريكا، باعتبار أن الأوروبيين هم من استوطنوا أمريكا بعد أن أبادوا سكانها الأصليين من الهنود الحمر.
فإذا كان التغريب في المعاجم العربية يأتي بمعنى النفي عن البلاد، فإن التغريب في الثقافة الغربية يعني النفي عن الزمان وعن التراث الذاتي والإنساني لأجل تيسير عملية الذوبان في العصر الأمريكي الأوروبي وحده؛ سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً.
لقد كان المجال التشريعي من أهم الآليات التي استعملها الغرب لتحقيق أهدافه في تنميط العالم الإسلامي –تحديداً- على هواه ووفقاً لما يحقق مصالح «الرجل الأبيض»، ولذلك كان من الطبيعي أن يعمل بجد على تنحية الشريعة الإسلامية عن مرجعية التشريع والقضاء التي تبوَّأتها على مدى أكثر من ثلاثة عشر قرناً، لا سيما وهي -بطبيعتها- عصية على التطويع والاحتواء، وتمنح المؤمنين بها الصمود والثبات في مواجهة العواصف التي تحاول أن تقتلعهم من جذورهم حتى لا يصبحوا لقمة سائغة للمتداعين عليهم كما تتداعى الأكلة على قصعتها!
فقد استغلت أوروبا الفجوة الكبرى التي حدثت بينها وبين المسلمين في الجوانب المادية والعسكرية خصوصاً لفرض نفوذها السياسي والاقتصادي على العالم الإسلامي منذ نهايات القرن الثامن عشر، ثم بدأت في احتلال دول العالم الإسلامي تباعاً، وكلما احتلت بلداً فيه استبدلت القوانين الوضعية بالشريعة الإسلامية، ليتغرب بذلك التشريع على مستوى المرجعية والمفهوم والمؤسسات والبيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وذلك على الوجه الآتي:
1- من حيث المرجعية، تحولت مرجعية التشريع من الشريعة الإسلامية إلى المرجعية الغربية، فلم يعد نابعاً من الشريعة، بل مما يحدده الغرب ويختاره، فباتت قوانينه والفقه الآخذ عنها –عملياً- هما الميزان وهما أصل المشروعية في المجتمع الإسلامي؛ وتحولت مصادر التشريع من القرآن والسُّنة والمصادر الاجتهادية التي ترتد إليهما وفق القواعد الأصولية والفقهية التي اعتمدها علماء الشريعة على مدى التاريخ الإسلامي، إلى «التقنينات» التي تصدرها الدولة ممثلة في الجهة المختصة بالتشريع، والمبادئ العامة للقانون والقانون الطبيعي وقواعد العدالة، وغيرها من مصادر القانون.
2- انحسر مفهوم التشريع في الدول المتغربة في معناه الغربي المقتصر على القواعد المنظمة للروابط بين الناس على وجه الإلزام من قبل الدولة، بعد أن كان التشريع يتسع في المفهوم الإسلامي ليشمل كل الأحكام الشرعية الإسلامية التي لها مقتضى عملي في حياة الإنسان بصفة عامة، بما تحتويه تلك الأحكام من عقائد وأخلاق وعبادات ومعاملات كمنظومة تشريعية متشابكة ومتكاملة، لا ترتبط بالضرورة بالدولة كجهة إلزام أو رقابة، بل كانت جهة الإلزام بتلك الأحكام هي القرآن الكريم والسُّنة النبوية وحدهما.
3- أحلَّ الغرب مؤسساته التشريعية والقضائية محل الجهات المختصة بالتشريع الإسلامي، فاستبدل الغرب –ووكلاؤه المتغربون- البرلمانات بالفقهاء، وولى الدولة الحديثة -المستوردة منه والتابعة له- استتباع المؤسسات الدينية المختلفة، وعلى رأسها جهات التعليم الديني، الذي قضى الغرب على تمويله الأهلي عبر نظام الوقف الإسلامي، فحرم الشريعة من علمائها المستقلين، وسلمهم والأوقاف للدولة وسلطتها التنفيذية المتغولة بدورها على المؤسستين التشريعية والقضائية، بعد أن تحكمت فيهما من حيث المنبع والمصب والوظيفة وإطارها!
4- تغيرت البيئة المحيطة بالتشريع، حيث تغرب الواقع الاجتماعي والأخلاقي والسياسي والاقتصادي والثقافي، وانتقلت العادات الغربية رويداً رويداً إلى بلاد المسلمين، فاختفت الأسرة الممتدة أو غاب الترابط عنها إلا قليلاً، ثم تبعها تفكيك الأسرة النواة كذلك تأسياً بالغرب الذي ما فتئ ينشر ثقافته ويفرضها على مجتمعات العالم فرضاً كي يستتبعها، فإذا بالأخلاق تتحول من الثبات إلى السيولة، ومن الإطلاق إلى النسبية، وإذا بالاقتصاد تغيب عنه العدالة والغايات الإنسانية التي كانت تستهدف إشباع ضروريات الإنسان واحتياجاته؛ فتحول إلى اقتصاد ربوي جشع لا يستهدف غالباً سوى توفير كماليات يمكن الاستغناء عنها دون عناء، أسهمت في تركيز ثروات العالم في يد شرذمة قليلين، مما وسع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، بعد أن هيمنت عليه الشركات الدولية الكبرى التي باتت توجه الثقافة كذلك لتصبح استهلاكية وتحول الإنسان نفسه إلى كائن استهلاكي، وفي السياسة تحولت ولاءات المسلمين من الإسلام إلى أراضٍ وحدود إقليمية رسمها «الاستدمار» الغربي للعالم الإسلامي لضمان التفرقة بين المسلمين، فكان طبيعياً أن يبتعد الواقع عن الشريعة الإسلامية، حتى أصبحت غريبة في واقع متغرب!
كيف نقاوم التغريب ونجري تغييرات عكسية؟
لا يعد تغريب التشريع قدراً لا فكاك منه، بل هو بمثابة تحدٍّ يقتضي استنفار الجهود لمقاومته بحكمة لا تستهدف إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ومحاكاة الماضي بحذافيره، ولكن تبتغي إعادة المرجعية التشريعية والثقافية للشريعة الإسلامية بأسلوب متدرج، يبدأ بإعادة فهم الإسلام نفسه وتحريره مما ران عليه نتيجة الجهل والتقليد الأعمى وضيق الأفق والتوظيف السياسي والاقتصادي الانتهازي لأحكامه.
ومن أهم معالم هذا التحرير للإسلام إعادة فهمه كدين عالمي لا يخاطب العرب وحدهم، بل يخاطب الناس جميعاً، لا سيما في عالمنا المعاصر الذي بات بمثابة قرية واحدة تجمع بين المستكبرين والمستضعفين، والذين اتُّبعوا والذين اتَّبعوا، والأغنياء والفقراء، والمتقدمين تقنياً والمتأخرين.
ومن معالم هذا التحرير كذلك إبراز الوجه الإنساني الرحيم للشريعة الإسلامية، وتقديم مقاصدها الكلية السامية على أحكامها العقابية، وقيمها الأخلاقية التراحمية في وقت أقام فيه الغرب المعاملات بين الناس على أساس تعاقدي لا رحمة فيه.
فالإسلام يستطيع أن يجبر نقص التشريع الوضعي فيعلي القيم الإنسانية على المصالح المادية، ويعيد الارتباط بين القانون والأخلاق، عبر تقديم نموذجه المعرفي المتفرد الذي يمكن أن يسترشد به أي نظام تشريعي يريد تحقيق مصالح الأنام، عبر الفهم السديد للتوحيد الذي يحرر العباد من تسلط البشر، ويدفع الإنسان إلى التركيز على مهامه الأساسية في هذه الحياة الدنيا، من تزكية واستخلاف وعمران، وإلى استهداف مقاصد عامة تتمثل في حفظ النفس والعقل والدين والمال والنسل، وإلى الاستعصام بمبادئ حاكمة –مطلقة لا نسبية، وصلبة لا سائلة- مثل العدل والمساوة والشورى والحرية المنضبطة بنصوص شرعية قطعية لا يمكن لبشر تحويرها أو التلاعب بها.
وهذه منظومة متضافرة من القيم والمقاصد التي تعلو فوق الدساتير والقوانين، وتمثل ثوابت تقف عندها سلطة البشر التشريعية بحيث لا تتحكم فيها الأهواء، فتصبغ شرعية على أفكار وسياسات تقود العالم نحو الهاوية!
كما أنه قد آن الأوان لإعادة الربط بين العقيدة والأخلاق والمعاملات عبر وضع إطار عقدي وأخلاقي لنصوص القوانين حتى يمتثل الإنسان طواعية للقانون، حتى لا يخالفه كلما أمن العقاب، ويمكن أن يجري ذلك عبر وضع مذكرة إيضاحية لكل قانون تؤصل له عقدياً وأخلاقياً، حتى يتقبلها المواطن وينصاع لها عن اقتناع.
ومن الناحية العملية لا يستلزم الأمر إلغاء كل التغييرات التي حدثت في التشريع نتيجة تغريبه، بل يمكن الاستفادة من إيجابيات تلك التغييرات وتجنب سلبياتها، فمن الممكن أن تبقى سلطة البرلمان في التشريع كما هي مع ضم علماء الشريعة الموثوق بهم إلى أهل الخبرة والاختصاص في مجالات التشريع المختلفة لضمان أن تصدر التشريعات عبر اجتهاد جماعي يحرص على موافقتها للشريعة وما تتغياه من تحقيق مصالح الجماعة، مع اشتراط أن تكون تلك البرلمانات ممثلة للأمة بحق لا للحاكم وحده، فتكون بمثابة «أهل حل وعقد» في ثوب جديد.
كما أنه لا ضير في بقاء القضاء بشكله الجديد بشرط تحقيق استقلاليته الكاملة، بحيث «يكون تقدير كل قاضٍ لوقائع النزاع، وفهمه لحكم القانون بشأنها، متحرراً من كل قيد، أو تأثير، أو إغواء، أو وعيد، أو تدخل، أو ضغوط أياً كان نوعها أو مداها أو مصدرها، وكان مما يعزز هذه الضمانة ويؤكدها استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأن تنبسط ولايتها على كل مسألة من طبيعة قضائية»، كما انتهت المحكمة الدستورية العليا المصرية -في أحد أحكامها- بحق.
كما ينبغي العمل على إعادة الاستقلالية إلى المؤسسات الدينية الإسلامية بحيث تكون لعلمائها حصانة القضاة المبتغاة، فلا يوضع عليهم أي قيد عند اجتهادهم في استنباط الأحكام الشرعية وإعلانها، من أي جهة كانت، مما يضمن قيامهم بمهامهم السامية في إقامة العدل وإعلاء حكم الشرع على ما سواه.