من مخاطر الموجة الثانية من موجات التطبيع والخيانات، أنها لا تبرر التطبيع بمنطق الضرورات، ولا تتعامل معه كعادة بعض السابقين إليه باعتباره فاحشة يجب سترها والتواري خجلاً من عارها، والحرص على عدم السماح بالتطبيع الشعبي والثقافي في نفس الوقت، بل إن التمهيد للوباء الجديد من فيروس التطبيع بدأ باستهداف المناعة الثقافية والفكرية.
وقد تبين أن المسلسلات والبرامج التي تم بثها قبل أشهر من التطبيع، ومنها على سبيل المثال مسلسلا “أم هارون” و”مخرج 7″ كانت في سياق التمهيد الثقافي والفكري للتطبيع، ومحاولة ماكرة وغادرة لتدمير المناعة الداخلية، حتى يستطيع الفيروس الخارجي أن يخترق الضحية وينتشر فيه، ويلغي شخصيته وهويته وإحساسه بذاته وكرامته وكينونته الحضارية، وتغيب مفاهيم الولاء والبراء.
وهذا التطبيع من أخطر أنواع التطبيع، فهناك دول تقيم علاقات دبلوماسية مع دول معادية لها أو دخلت معها في حروب سابقة، واضطرت لإقامة علاقات معها دون محاولة طمس التاريخ الذي يشكل جزءًا من هوية الأمة، ويمكن أن نستشهد هنا بالجزائر التي تحررت من الاستعمار الفرنسي قبل أكثر من نصف قرن، واضطرت بعد الاستقلال إلى إقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية مع فرنسا، ووصلت هذه العلاقات في بعض المراحل إلى درجة التبعية السياسية، ومع ذلك حافظت الجزائر على الحد الأدنى من الجذوة الثقافية للصراع مع المستعمر، وهذا يبدو واضحاً في نشيدها الوطني الذي يشير إلى فرنسا بالاسم “يا فرنسا قد مضى وقت العتاب.. وطويناه كما يطوى الكتاب.. يا فرنسا إن ذا يوم الحساب.. فاستعدي وخذي منا الجواب”، وهذا هو واجب الحد الأدنى من الحفاظ على هوية الصراع في ذاكرة الأجيال.
فالتطبيع الثقافي تزوير للحقائق وللتاريخ، وخيانة لوجدان الأمة الثقافي، ومجرد مسخ وانسلاخ من الهوية، وتعبير من الدونية والهوان وخيانة للمسؤولية الثقافية والعقدية وجميع ثوابت الأمة.