كشفت منظمة “أوبك” العالمية للنفط عن أن العراق جاء بالمرتبة الأولى في أكثر الدول تخفيضاً للإنتاج النفطي داخل المنظمة لشهر أغسطس الماضي، حيث بلغت متوسط التخفيضات 152 ألف برميل يومياً.
واحتدت وتيرة الجدل في العراق بفعل صعوبة المواءمة ما بين التزامات البلد مع منظمة “أوبك” والحاجة الماسة لتصدير النفط في ظل وضع اقتصادي منهار؛ ما يجعل بغداد غير قادرة على مواكبة خفض الإنتاج.
ويعوّل العراق على النفط لتمويل 97% من ميزانيته الحكومية، وأبلغ وزير المالية العراقي علي علاوي البرلمان، في منتصف الشهر الماضي، أن إصلاح الاقتصاد العراقي سيستغرق خمس سنوات من العمل، وأن الدين الحكومي بلغ ما يتراوح بين 80 و90% من الناتج القومي، بينما يبلغ الدين الخارجي 133 مليار دولار.
وقال وزير النفط العراقي الأسبق، إبراهيم بحر العلوم: إن التزام العراق باتفاق “أوبك+” سيعني حرمانه من 750 ألف برميل نفط يومياً، وهذا يعني خسارته نحو 50 مليار دولار على مدى العامين المقبلين، مضيفاً أن العراق اليوم بحاجة إلى مراجعة هذا الاتفاق، فلا يمكن أن يتحمل عبء ومصالح دول أخرى تزيد وتوسع إنتاجها النفطي بينما نتضرر نحن.
وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن اقتصاد العراق سينكمش 9.7% في عام 2020، في ضوء انخفاض أسعار النفط وفيروس كورونا، مقارنة مع نمو 4.4% في عام 2019.
مغادرة “أوبك”!
وأظهرت توقعات صادرة عن الأمم المتحدة انخفاض إجمالي الناتج المحلي للعراق بنسبة 10% خلال العام الجاري، مدفوعاً بالتبعات السلبية لتفشي جائحة كورونا وأزمة هبوط أسعار النفط.
كما ذكرت الأمم المتحدة، خلال موجز صحافي صدر في 8 أكتوبر الجاري، أن العجز المالي سيصل مستوى غير مسبوق يقارب 30% من إجمالي الناتج المحلي خلال العام الجاري.
وبحسب الخبير الاقتصادي، أسامة التميمي، فإن العراق غير قادر في المرحلة الحالية على التأثير بشكل مباشر في سوق النفط العالمية لعدة أسباب، تتمثل في أن السوق العالمية متخمة بالإنتاج من داخل “أوبك” ومن خارجها نتيجة التباطؤ الاقتصادي الذي يصيب دول العالم الناتج عن جائحة كورونا، مما يدفع الجميع إلى الحصول على إيرادات مالية لتعويض الخسائر المتحققة بعيداً عن أي مضاربات اقتصادية.
وأضاف، لـ”المجتمع”، أن العراق اليوم في ظل هذه الأوضاع يحاول الحفاظ على زبائنه المشترين للنفط عبر بيع نفطه بأسعار أقل من أسعار “أوبك” لأجل تمويل اقتصاده المتداعي، مشيراً إلى أن خروج البلاد من “أوبك” يعني تعرضه إلى ضغوط سياسية وربما اقتصادية من أعضاء دول المنظمة هي في غنى عنها خلال تلك المرحلة.
ويعد أبرز الزبائن الكبار للنفط العراقي ثاني أكبر منتج في “أوبك”، هم: الصين، والهند، وكوريا الجنوبية، واليابان.
وأشار التميمي إلى أن نهج الحكومة المعلن هو التعاون مع المجتمع الدولي وبناء علاقات سياسية واقتصادية متطورة مع دول العالم، مشيراً إلى أن العراق بأمسّ الحاجة إلى مثل هذه العلاقات للخروج من الأزمات المختلفة التي يمر بها، ولهذا مجرد التفكير بالخروج من “أوبك” يعد فكرة مجنونة لا تنسجم مع توجهات العراق الحالية.
وتابع: إضافة إلى أن العراق ليس لديه القدرة على مواجهة آثار مثل هذا القرار باعتبار أن “أوبك” منظمة عالمية مهمتها الحفاظ على تحديد سعر النفط بشكل يتناسب مع تطور الاقتصاد العالمي وتوحيد الإنتاج ومراقبة السوق، وأن العراق في حال خروجه يكون قد خرج على الإجماع الدولي الأغلب للدول المنتجة للنفط، وإذا ما افترضنا جدلاً اتخاذ قرار الخروج من “أوبك” فستكون هناك رد فعل دولي تجاه العراق لن يستطيع مواجهته في المرحلة الحالية.
وتراجعت صادرات النفط العراقية بنحو 8% بما يعادل 300 ألف برميل يومياً منذ بداية يونيو 2020، وفقاً لبيانات الشحن.
وكانت منظمة “أوبك” وحلفاؤها، فيما يعرف باسم “أوبك+”، قد بدؤوا في صفقة لخفض غير مسبوق في الإمدادات في مايو 2020 لدعم أسعار النفط التي تعصف بها أزمة فيروس كورونا، ويخفض العراق الإنتاج بمعدل 1.06 مليون برميل يومياً بموجب الاتفاق، وتشير الأرقام إلى أنه يحرز تقدماً، إلا أنه لم يف بعد بتعهده كاملاً.
من جانبه، يرى المستشار الاقتصادي لدى اتحاد الكتَّاب المثقفين العرب، رائد الهاشمي، أنه ليس من مصلحة العراق الخروج من “أوبك” لعدة أسباب، أهمها أن العراق حالياً يعاني من ضعف في مكانته السياسية وشبه عزلة دولية نتيجة سوء إدارة الحكومات التي تعاقبت على العراق وعدم استقلالية القرار لهذه الحكومات بسبب تأثرها بالضغوط الإقليمية.
وأكد الهاشمي، لـ”المجتمع”، أن العراق لن يتحمل أي عقوبات أو ضغوطات اقتصادية جديدة قد تفرض عليه من منظمة “أوبك” أو المجتمع الدولي، مشيراً إلى أن وجود العراق تحت مظلة “أوبك” يوفر له الحماية الدولية في كثير من التفاصيل التي تخص عمليات إنتاج وتصدير النفط في الأسواق العالمية.
مرحلة خطرة
ويأتي ذلك ليضاعف من أزمة العراق في تلبية احتياجاته مما يرغم البلاد على الاستدانة من أجل مواجهة متطلبات الإنفاق مثل دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين، بالإضافة إلى سد عجز الموازنة وغيرها، نتيجة عدم كفاية العائدات، التي يأتي معظمها من تصدير النفط.
وقال عضو اللجنة المالية في البرلمان العراقي، جمال كوجر: إن إيرادات الحكومة الإجمالية لشهر أغسطس الماضي بلغت نحو 4 مليارات دولار، منها 3.5 مليار دولار من تصدير النفط، بينما ما تحتاجه الحكومة بشكل فعلي لتسديد النفقات ومنها الرواتب يصل إلى حوالي 6 مليارات دولار شهرياً.
وأضاف خلال تصريحات صحفية في مطلع سبتمبر الماضي، أن وضع الحكومة المالي سيدفعها للاقتراض من أجل تأمين رواتب للأشهر الثلاثة المتبقية ضمن الميزانية المالية، بالإضافة إلى موازنة عام 2021.
وأوضح التميمي أن الدول التي تتجه إلى الاستدانة هي في الأغلب الدول الضعيفة من الناحية الاقتصادية أو الدول التي تتعرض إلى سوء إدارة مثل العراق، مشيراً إلى أن عملية الاستدانة المستمرة عملية خطرة تصل بالدولة إلى مرحلة الإفلاس والانهيار الاقتصادي، لهذا فإن حكومة الكاظمي حالياً تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه وإصلاح ما خربته الحكومات السابقة وإعادة النشاط الاقتصادي وتحريك القطاعات الاقتصادية الأخرى لتقليل الاعتماد على النفط، لأن الديون العراقية الخارجية والداخلية وصلت إلى مرحلة خطرة يمكن أن يكون لها انعكاسات واضحة على الوضع الاقتصادي ووصوله إلى مرحلة الكساد الاقتصادي.
وأنه من الطبيعي أن يتزايد حجم الانكماش كلما تزايد حجم الدين نظراً لعدم قدرة الحكومة على خلق مشاريع أو الإنفاق على الخدمات المقدمة للمواطنين، مؤكداً أن كبح عجلة الاستدانة يتوقف على حجم الإصلاحات التي يمكن أن تقوم بها الحكومة لتنشيط القطاع الخاص وتشجيع الاستثمار وتوجيه الإيرادات بشكل الصحيح، مضيفاً أنه من الضروري القضاء على الفساد المالي المتفشي واستعادة الأموال المنهوبة حتى يتم توجيه الاقتصاد بشكل صحيح.
وكشف وزير المالية العراقي، علي علاوي، في تصريحات نقلتها “الوكالة الوطنية العراقية للأنباء”، في مطلع الشهر الجاري، أن هناك نحو 250 مليار دولار سرقت من العراق منذ عام 2003 حتى الآن، وهذا المبلغ يبني العديد من الدول.
قال عضو اللجنة المالية النيابية محمد صاحب الدراجي: إن الفساد المالي بالمنافذ الحدودية بلغ 27 مليار دولار منذ بداية العام الحالي وحتى الآن، فيما أشار إلى أن حجم الفساد المالي في مزاد العملة بلغ 495 مليون دولار.
وحذر الدراجي، في تصريحات نقلتها “وكالة أنباء الإعلام العراقي”، من خطورة الوضع الاقتصادي مع وصول احتياطي البنك المركزي العراقي لأقل من 60 مليار دولار مع استمرار فساد مزاد العملة بملايين الدولارات.
فيما أرجع الهاشمي قضية اللجوء إلى الدين الخارجي والداخلي لسوء إدارة البلاد من قبل الحكومات المتعاقبة وبخاصة الملف الاقتصادي، بالإضافة إلى إهمال القطاعات الحيوية الرئيسة مثل الصناعة والتجارة والسياحة والجمارك والمنافذ الحدودية التي تم إهمالها بشكل مقصود وبفعل إرادات دولية وإقليمية.
وبالتالي، فإن اللجوء إلى الدين سيبقى تزايداً مستمراً مع تزايد انهيار الاقتصاد العراقي، وفي ظل الاعتماد على النفط كمورد رئيس لتعزيز موازنة البلد، مشيراً إلى ضرورة النهوض بالقطاعات المنتجة والمعظمة للواردات للخروج من أزمة ارتفاع الدين، مضيفاً إلى أنه في حال استمر هذا الانكماش الاقتصادي على هذه الوتائر المتصاعدة، فإن حجم الدين وبخاصة الخارجي سيرتفع بفعل حجم الفوائد الكبيرة مما يضيف ثقلاً كبيراً على الاقتصاد العراقي وعلى المواطن العراقي.
تحديات كبيرة
وتعاني بغداد من فوضى سياسية واقتصادية وأمنية في ظل حرب واسعة ضد الإرهاب وانتشار الفساد في مفاصل الدولة وشلل النشاط الاقتصادي، ما أدى إلى اختلالات وعجز قياسي في الموازنة العامة.
ويرى التميمي أن ما قدمته حكومة الكاظمي حتى الأن لا يتناسب مع المطالبات الشعبية سواء على المستوى الاقتصادي أو الأمني أو السياسي، وأن القطاعات الشعبية ما زالت غير راضية عن الأداء حتى الآن على الرغم من قِصر عمر الحكومة.
فمن الناحية الاقتصادية، قامت باستعادة بعض المنافذ الحدودية مع إيران التي يمكن أن تُدر على الحكومة إيرادات لتمويل الموازنة، في حين ما زالت لم تحقق أي تقدم في المنافذ الحدودية مع كردستان، إضافة إلى الفساد فإن اللجنة المشكَّلة ما زالت تعمل لكنها لم تضع يدها على الفاسدين الكبار ولم تكشف عن المبالغ الكبيرة التي تم تهريبها بعد.
مضيفاً أنه ما زال هناك الكثير من الملفات الاقتصادية تعجز الحكومة عن معالجتها نظراً لحاجتها إلى وقت وتمويل مالي مثل قطاعات الكهرباء والصحة والتعليم، إضافة إلى تنشيط القطاع الخاص والاستثمار الذي بحاجة إلى تشريعات قانونية مطمئنة في هذا المجال.
وكان قد أقر البرلمان العراقي في مطلع مايو 2020، حكومة مصطفى الكاظمي، منهياً بذلك أكثر من خمسة أشهر من الفراغ الذي غطته حكومة تصريف أعمال.
ومنذ أكتوبر 2019، يشهد العراق موجات احتجاجية مناهضة للطبقة الحاكمة التي اعتبرها آلاف المتظاهرين “فاسدة”، ما تسبب في استقالة عادل عبدالمهدي، لتحل حكومة الكاظمي مكانه.
بينما يرى الهاشمي أن حكومة الكاظمي على الرغم من قصر فترتها وحجم الضغوط والتحديات الكبيرة التي تواجهها وخاصة انهيار أسعار النفط وجائحة كورونا وخلو الميزانية من الأموال والضغوط التي تمارسها الكتل والأحزاب السياسية عليها، لكن ما فعلته من خطوات تحسب لها كالتصدي لملفات خطيرة تمثل عش الدبابير، التي لم يجرؤ أي رئيس وزراء قبله على فتحها وأهمها تصديه للفساد وفتح بعض ملفاته الخطيرة مثل ملف المنافذ الحدودية وملف “الكي كارد” ودائرة التقاعد.
مشيراً إلى أنه في حال استمر الكاظمي على هذا المنوال وصمد أمام الضغوط الكبيرة التي تمارس ضده، فإن العراق سيضع قدمه على السكة الصحيحة والبداية السليمة لتجاوز أخطاء الماضي.