لأنني لم أدرس في كتب التاريخ المدرسية أي شيء عن جنود المستعمرات، ودرست من تاريخ فرنسا قيادتها لعصر التنوير، وفوائد حملتها على مصر! فقد وقفت مندهشاً أمام صورة منزوية في متحف التاريخ الوطني اليوناني في العاصمة أثينا، الصورة لجنود وجوههم عربية وأفريقية وآسيوية، ساقني فضول معرفة وجودهم في قسم الحرب العالمية من المتحف، فبدأت أقرأ التعليق على الصور، واكتشفت أن الدول الاستعمارية وعلى رأسها إنجلترا وفرنسا، بعد أن اشتدت المعارك وأوشكت على الهزيمة من دول المحور بدأت في استجلاب جنود من أهل البلاد التي كانوا يحتلونها، وفرنسا وحدها استجلبت ستمائة ألف جندي في الحرب العالمية الأولى فقط من مستعمراتها في المغرب العربي وأفريقيا، ووضعتهم في الصفوف الأمامية في ظروف بالغة القسوة، نتج عنها وفاة معظمهم، دون أن تُعلِم فرنسا أهاليهم، فضلا على مئات الآلاف الآخرين الذين وظفتهم بالسخرة للعمل في المصانع والمزارع، وكان لهؤلاء الدور الحاسم في تحويل هزيمة فرنسا إلى نصر، وكان نصيب جنود المستعمرات الإخفاء القسري من كتب التاريخ حتى تستأثر فرنسا بنيشان النصر، وقامت بتكرار الجريمة نفسها في الحرب العالمية الثانية.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تم انتقاء من نجا من جنود المستعمرات من الموت وضم الكثير منهم في (الفيلق الأجنبي الفرنسي)، ليس لقتال الألمان هذه المرة بل للقتال ضد بني قومهم أو ضد الشعوب المحتلة مثلهم.
كانت مهمة هذا الفيلق إخماد نيران الثورات التي اشتعلت ضد فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1957 بعد بداية ظهور بوادر عدم إمكانية استمرار الاحتلال الفرنسي تنبأ “فرانسوا ميتران” الذي صار رئيسا لفرنسا فيما بعد أن فرنسا بدون أفريقيا لا يمكنها الدخول للقرن الحادي والعشرين، أو بتعبير “جاك شيراك” عام 2008 “ستكون فرنسا بدون أفريقيا دولة من دول العالم الثالث”.
تحت الضغط قررت فرنسا منح الاستقلال تباعا للدول الأفريقية، وابتعدت فرنسا شكلا، وتركت مخالبها مغروسة في جسد أفريقيا، وتحولت مهمة “الفيلق الأجنبي الفرنسي” إلى ذراع للتدخل السريع ضد من يحاول نزع المخالب الفرنسية أو حتى مجرد تقليم أظافرها.
“إتيان إياديما” أحد الجنود السابقين في (الفيلق الأجنبي الفرنسي) استخدمته فرنسا كقاتل محترف لقتل أول رئيس منتخب لدولة “توجو” الصغيرة في غرب أفريقيا، كان الرئيس “سيلفانوس أوليمنبيو” قد رضخ لدفع ما سمته فرنسا الدَّيْن الاستعماري الذي تدفعه الدول مقابل رفع الاحتلال! كان هذا الدين يمثل 40% من الدخل القومي للدولة، وبعد سنوات أراد “سيلفانوس” أن ينقذ اقتصاد بلاده الغارقة في الفقر، فعزم على تغيير الفرنك الذي فرضته فرنسا كعملة لمستعمراتها، وأنشأ عملة جديدة، وفي 13 يناير 1963، بعد ثلاثة أيام من البدء في طباعة العملة الجديدة، قام مجموعة من الجنود المدعومين من فرنسا بالتمرد على الرئيس، وقام “إتيان إياديما” بقتل الرئيس، وحصل على مكافأة قدرها 612 دولارًا أمريكيًّا من السفارة الفرنسية في توجو عن مهمته كقاتل مأجور.!
وفي عام 1968 تم تنصيب جندي سابق (في الفيلق الأجنبي الفرنسي) وهو الملازم “موسى تراوري” رئيسا لجمهورية مالي بعد الانقلاب على “موديبا كيتا” أول رئيس منتخب لمالي عام 1962، بعدما حاول الانسحاب من استخدام الفرنك الأفريقي الذي فرضته فرنسا على مستعمراتها.
وفي العام نفسه تم تنصيب “جانبيد بوكاسا” العضو السابق في (الفيلق الأجنبي الفرنسي) بعد انقلابه على “ديفيد داكو” أول رئيس منتخب لأفريقيا الوسطى.
وفي عام 1966، قام “أبو بكر سانجوليه” العضو السابق في (الفيلق الأجنبي الفرنسي) الذي خدم الفيلق في مهمته في الجزائر بالانقلاب ضد “موريس ياموجو”، أول رئيس منتخب لجمهورية بوركينا فاسو .
وقِس على ذلك ما لا يحصى من الاضطرابات والانقلابات والإرهاب المتنقل لخدمة مطامع فرنسا، وما زالت مهمة “الفيلق الأجنبي الفرنسي” قائمة حتى الآن لتثبيت مخالب فرنسا في جسد أفريقيا الجريح.
وحتى الآن ما زالت المستعمرات الفرنسية السابقة ملزمة بدفع ما تسميه فرنسا “ديونا” عن الفترة الاستعمارية، ووضع 85% من احتياطاتها الأجنبية في البنك المركزي الفرنسي تحت سيطرة الوزير الفرنسي للرقابة المالية، ومن يتمرد من رؤساء تلك الدول على هذه الجريمة الفرنسية جزاؤه القتل أو السجن والانقلاب على حكمه، ومن يُطِع الأوامر يتنعم في الكرم الفرنسي على حساب شعوب تئن من الفقر والفساد والتخلف.
أمام هذا التاريخ والواقع المخزي، فرنسا الآن ترى البساط بدأ ينسحب من تحت أرجلها مع صحوة الشعوب الأفريقية، ودخول لاعبين جدد على الساحة الأفريقية وعلى رأسهم تركيا والصين، ولذا فإن فرنسا لا تهتم بأزمتها الأخلاقية، ولكن كل اهتمامها ينصب على ما تراه “أزمة وجودية”؛ فهي بدون امتصاص دماء الأفارقة ستكون مجرد دولة عادية بلا نفوذ ولا ثراء.
أما الأزمة الفرنسية الوجودية الأكثر عمقاً، فهي أزمة ثقافية لا تقل عن أزمتها الوجودية السياسية والاقتصادية، إنها أزمتها مع الإسلام، العقيدة الأكثر تأثيرا والأسرع انتشارا في فرنسا وأوروبا، والتي يعتنقها على أقل تقدير ستة ملايين مسلم فرنسي.
وسيظل ملف فرنسا من خلف القناع مفتوحاً، لأنه فصل مهم من فصول معركة الوعي.