مع انتشار فيروس كورونا من ناحية ودخول فصل الشتاء من ناحية أخرى، يصاب البعض بنزلات برد، مما يجعلهم يحجمون عن الذهاب إلى المساجد لأداء صلاة الجمعة.
ويمكن التعبير عن هذا الأمر بالقول: هل يجوز التخلف عن حضور صلاة الجمعة في المسجد بسبب البرد، مع خشية أن يكون الإنسان مصاباً بفيروس كورونا؟
والأصل –كما هو معلوم- أن صلاة الجمعة فرض عين لمن وجبت في حقهم، كما قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من التخلف عن صلاة الجمعة خاصة، كما ورد عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: “لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم” (رواه مسلم).
وعن عبدالله بن عمر، وأبي هريرة، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: “لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين” (رواه مسلم).
وعن أبي الجعد الضمري وكانت له صحبة عن النبي صلى الله عليه وسلم: “من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها؛ طبع الله على قلبه” (رواه أبو داود).
وعن أسامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من ترك ثلاث جمعات من غير عذر؛ كتب من المنافقين” (رواه الطبراني وهو حديث حسن).
فدلت نصوص الكتاب والسُّنة على وجوب حضور صلاة الجمعة في المسجد، والنكير على من يتركها بغير عذر شرعي.
الأعذار المبيحة للتخلف عن صلاة الجمعة:
أولاً: السفر:
تجب الجمعة على المقيم، فيعذر في تركها المسافر، وتصح منه إن فعلها، ذلك ما رواه جابر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا مريض، أو مسافر، أو امرأة، أو صبي، أو مملوك، فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه والله غني حميد” (أخرجه الدارقطني)، وفي الحديث: “ليس على مسافر جمعة”، وقال عمر لأحدهم: “اخرج؛ فإن الجمعة لا تحبس عن سفر”.
وعلة إسقاطها عن المسافر، كما قال السرخسي الفقيه الحنفي في المبسوط للسرخسي 2/ 22): والمعنى: أن المسافر تلحقه المشقة بدخول المصر وحضور الجمعة، وربما لا يجد أحداً يحفظ رحله، وربما ينقطع عن أصحابه، فلدفع الحرج أسقطها الشرع عنه.
ثانياً: الأنوثة:
فتجب صلاة الجمعة على الرجل، وتعذر المرأة في تركها، فلا تجب عليها، لكن إن صلتها صحت، وذلك للحديث السابق.
وقال الكاساني في بدائع الصنائع (1 / 258): “وأما المرأة فلأنها مشغولة بخدمة الزوج، ممنوعة من الخروج إلى محافل الرجال، لكون الخروج سبباً للفتنة ولهذا لا جماعة عليهن أيضاً”.
وإعذار المرأة عن حضور الجمعة تخفيف ورحمة لها، ومراعاة لحالها، فليس حال النساء كحال الرجال.
ثالثاً: المرض:
فتجب صلاة الجمعة على صحيح البدن، وتسقط عن المريض.
ولكن المرض الذي يسقط معه وجوب صلاة الجمعة في المسجد، هو الذي لا يستطيع معه الإنسان أن يخرج إلى المسجد.
ويلحق بالمريض من يقوم على عنايته إذا دعت الحاجة إلى ذلك، بشرط ألا يوجد من يقوم مقامه في ذلك لو تركه، فعن طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض” (رواه أبو داود).
وعن إسماعيل بن عبدالرحمن “أن ابن عمر رضي الله عنهما دعي يوم الجمعة وهو يتجهز للجمعة إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو يموت، فأتاه وترك الجمعة”، وفي رواية: “مرض في يوم الجمعة فركب إليه بعد أن تعالى النهار واقتربت الجمعة وترك الجمعة” (أخرجه أبو داود).
ويستثنى من ذلك أيضاً كل معذور أذن له أن يترك الجماعة لعذر المطر أو الوحل أو البرد الشديد ونحو ذلك.
فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: “أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم، قال: فكان الناس استنكروا ذاك فقال: أتعجبون من ذا؟ قد فعل ذا من هو خير مني؛ إن الجمعة عزمة وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض (2)” (رواه البخاري).
وعن أبي المليح عن أبيه أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في يوم جمعة وأصابهم مطر؛ لم تبتل أسفل نعالهم فأمرهم أن يصلوا في رحالهم” (رواه أبو داود وابن ماجة).
حالات الإصابة البرد:
وفي حال الإصابة بالبرد، ينظر أي الحالات:
هل البرد شديد بحيث لا يقدر معه الإنسان على الخروج إلى المسجد؟ وهل يخشى إصابة المصلين أم لا؟ أم أنه يخرج إلى عمله وإلى التسوق ويمارس نشاطه كاملاً؟
الحالة الأولى: إن كان لا يقدر على الخروج من البيت؛ سقط عنه وجوب صلاة الجمعة في المسجد، ويصلي الظهر في البيت أربع ركعات.
الحالة الثانية: إن كان يخشى أن يصيب المصلين ويعديهم، فهنا تسقط صلاة الجمعة عنه، وذلك للحديث: “لا ضرر ولا ضرار”، وقياساً على ترك الجماعة بالأعذار الأخرى التي تدور حول إيذاء الغير كالبرص والجذام ونحوها من الأمراض المعدية، فإن المساجد لم تجعل لإيذاء الناس.
ولا تأخذ العاطفة الناس وحبهم للصلاة إلى إيذاء المسلمين.
الحالة الثالثة: إن كان يخرج إلى عمله وإلى التسوق ويمارس نشاطه كاملاً في الحياة، فلا تسقط عنه الجمعة، ويجب عليه الذهاب إلى المسجد لحضور الصلاة مع الجماعة، بشروط:
الأول: أن يلتزم التعقيم ولبس الكمامة، وأن يصلي على سجادة خاصة به، وأن يحافظ على كل الالتزامات والإرشادات المعلومة لدى الجميع الآن، وذلك لسلامة صحته من جهة، وسلامة المصلين الآخرين من جهة.
الثاني: أن يتناول أدوية البرد قبل خروجه إلى الصلاة؛ حتى يقلل من تأثيره على نفسه.
الثالث: ألا يذهب مبكراً إلى المسجد، بل يذهب بحيث يدرك الخطبة والصلاة، وأن يغادر المسجد بعد أداء صلاة الجمعة.
الرابع: أن يتأكد أنه مصاب بالبرد فقط، وليس بفيروس كورونا، والأعراض بينها معروفة، فالبرد- عادة- لا يصحبه ارتفاع درجة الحرارة، ولا يحصل معه احتقان في الحلق غالباً، وعليه أن يستشير الأطباء، فإن كان مصاباً بالبرد وحده، وهو قادر على الخروج لم يسقط عنه وجوب صلاة الجمعة.
ولا يعد مجرد التخوف والتوهم من الإصابة بالفيروس ما دام سليماً معافى، لا يخشى أن يؤذي المصلين، مانعاً من سقوط وجوب صلاة الجمعة؛ لأنه، كما قرر الفقهاء في قواعدهم: “اليقين لا يزول بالشك”.
ثم إن الناس –قبل جائحة كورونا- ما زالوا يصلون الجمعة وإن أصيبوا ببرد خفيف، ولم نجد من أقوال الفقهاء السابقين من أجاز التخلف عن صلاة الجمعة بسبب هذا البرد إن كان متحملاً، ولا يخشى معه إيذاء المسلمين.
ويجب التفريق بين صلاة الجمعة وصلاة الجماعة، فوجود برد خفيف لا يضر الإنسان يسمح معه التخلف عن صلاة الجماعة في الصلوات الخمس، وذلك لأكثر من سبب:
الأول: أن صلاة الجماعة في الصلوات الخمس سُنة مؤكدة وليست واجبة، ولا يأثم الإنسان بتركها إن لم يداوم على ذلك.
الثاني: أن حرمة صلاة الجمعة أغلظ في الشريعة وآكد من الصلوات كلها.
وخلاصة القول:
تسقط الجمعة عن المصاب بالبرد إن كان لا يقدر على الخروج من البيت، أو شديداً بحيث لا يمكنه الاحتراز من إصابة الناس به، أما إن كان خفيفاً؛ يقدر معه على الخروج، ولا يخشى إصابة الناس به، فيجب عليه حضور صلاة الجمعة، مع أخذ كامل الاحترازات والاحتياطات الطبية؛ طلباً لسلامة الجميع، وحفاظاً على إقامة الشعيرة.