في مترو باريس، يمكن أن تسمع إعلانات باللغة الإنجليزية والإسبانية وحتى الصينية، ولكن لن تسمع مطلقاً إعلاناً باللغة العربية، وإلى وقت قريب جداً، لم يكن لهذه اللغة أثر في المطارات الفرنسية باستثناء مطار نيس الذي يرحب بلاعبي الغولف من الأثرياء الذين يأتون للاسترخاء على السواحل.
بهذه المقدمة، بدأ آلان غريش مقالاً بموقع “أوريان 21” الفرنسي (Orient XXI)، يستعرض فيه كتاب الصحفي نبيل واكيم “العربية للجميع.. لماذا لغتي من المحرمات في فرنسا؟”، وقال فيه: إن اللغة العربية ليست لغة مثل اللغات الأخرى بالنسبة لفرنسا.
وقال فيه: إن مكانة اللغة العربية في فرنسا متناقضة ما دام يُنظر على هذا النحو إلى ملايين عدة من السكان معظمهم من حاملي الجنسية الفرنسية وأصولهم عربية.
وأشار غريش إلى أهمية كتاب الصحفي اللبناني الأصل الذي يعمل في صحيفة “لوموند” الفرنسية ولا يعرف سوى كلمات عربية محدودة، معتبراً أنه يجرنا إلى البحث في العلاقة التي تقيمها فرنسا مع اللغة العربية، بالتوازي مع بحث أكثر حميمية في علاقته هو شخصياً بهذه اللغة التي هزت كيانه في لبنان وأصبحت غريبة عليه في فرنسا.
عار مزدوج
قال الصحفي: إنه يقرر كل عام دراسة العربية، ولكنه يفشل في كل مرة، غير أن مولد ابنته ورغبته في نقل “تراثه” لها، مهما كان المعنى الذي يعطيه المرء لهذه الكلمة، دفعه إلى التساؤل: كيف يمكن لشخص مثله أن يفقد لغته الأم.
وتساءل واكيم كيف يخرج من هذه الوصمة المزدوجة، فهو يخجل عندما يسافر إلى لبنان من كونه لا يستطيع أن يتفاهم مع عائلته، وخاصة جدته المسيحية التي لا تعرف سوى العربية، كما أنه يشعر بالخجل في الشوارع الفرنسية عندما تتحدث والدته العربية، شأنه شأن أي شاب من المهاجرين المغاربيين.
وقال الكاتب: إن هذه الرحلة الشخصية والسياسية للغاية في شوارع فرنسا تسمح لنا بتحديد مدى سوء التفاهم، خاصة مع ما يتخللها من لقاءات مع مغنية البوب كاميليا جوردانا، والكاتبة الاشتراكية نجاة فالو بلقاسم، ووزير الثقافة السابق جاك لانغ، أو الصحفية نصيرة المعظم.
ونبه آلان غريش إلى أن وزير التربية الوطنية جان ميشال بلانكر، رغم أنه من أقصى يمين الأغلبية، لقي هجوماً عنيفاً لا يُصدق عندما قال: إنه يمكننا تعليم اللغة العربية في رياض الأطفال، فقد انتُقد بشدة على الشبكات الاجتماعية ومن قبل عدد لا بأس به من السياسيين، باعتبار أن هذا الإجراء يشكل خطوة أخرى نحو “الاستبدال العظيم”، وفي إحدى الكليات رفض المدرسون الذين يعتقد أنهم “يساريون” فتح فصل للغة العربية تحت عنوان الاندماج.
كل هذا -حسب غريش- يؤكد أن اللغة العربية مخيفة رغم أن الواقع مختلف تماماً، حيث نحن بعيدون تماماً عن ذلك الزمن الذي كان فيه عدد كبير من الفرنسيين يدرسون اللغة العربية، حيث لا يتجاوز هذا العدد الآن 14 ألف طالب، وهو أقل مرتين مما كانت عليه الحال منذ 30 عاماً، كما يدرّسها اليوم 178 معلماً؛ أي أقل بنسبة 20% مما كان قبل 10 سنوات.
الاندماج مقابل الذوبان
في فرنسا اليوم -كما يقول مؤلف الكتاب- فإن العربي الجيد بالنسبة للسلطات وكثير من الرأي العام هو من نسي لغته وثقافته ودينه بالطبع، “هو الشخص الذي يختار أن يكون الأفضل بالفرنسية بدلاً من العربية”، إلا أنه إذا بقي يحمل اسماً مثل نبيل أو محمد أو فاطمة، فسيظل الشك يحوم حوله باعتبار أن ما يفعله مجرد تقية يتستر خلفها لجعل الناس يعتقدون أنه “مثلنا”.
ويعج الكتاب بالحكايات الجميلة التي تجعل من الممكن -حسب الكاتب- التقليل من حدة النقاش، وقياس المستويات المختلفة للغة، ومستويات القرآن والأدب واللهجات الوطنية المختلفة.
وختم الكاتب بأن أحد أعضاء إدارة معهد العالم العربي في فرنسا حكى له بعد أشهر قليلة من افتتاح هذه المؤسسة في نوفمبر 1987، أن لديه انطباعاً بأن زيارة هذا المكان تركت في العديد من طلاب الضواحي أثراً طيباً وأشعرته بالفخر وهو يرى ثقافته تقدم ولو مرة واحدة بطريقة إيجابية.
وخلص غريش إلى أن استعادة كرامة اللغة العربية في فرنسا ستكون إحدى وسائل مكافحة ما تندد به السلطات من “الانفصالية” التي لا تعدو أن الجمهورية ترفض بعض أبنائها وتاريخهم وثقافتهم.
كنز فرنسا
وكان جاك لانغ، رئيس معهد العالم العربي وزير الثقافة الفرنسي السابق، قد أشعل الجدل في الأوساط الفكرية والإعلامية التي لم تنتظر صدور كتابه “اللغة العربية.. كنز فرنسا”، لتندلع حملة شرسة ضده، قادها الإعلامي والكاتب الفرنسي المعروف بمواقفه العنصرية إريك زمور المعجب باللغة العربية أدبياً وموسيقياً فقط، والمعادي لها إلى حد الكره المرضي لأنها “لغة الإسلاميين الإرهابيين”، على حد تعبيره في حوار تلفزيوني نهاية يناير الماضي.
والتقت “الجزيرة نت” جاك لانغ الذي رد على أسئلة خاصة بمناسبة عقده ندوة صحفية في مكتبه بشأن كتابه الجدلي الجديد مطلع العام الحالي، وقال: إنه لم يستسلم لخصمه زمور، ليس لأنه صاحب مزاج مقاوم بطبعه فحسب، بل لأنه يعتقد جازماً أن اللغة العربية لا تنفصل عن تاريخ فرنسا، الأمر الذي يصيب بالجنون أعداءه من اليمين واليمين المتطرف.
ويعتبر لانغ أن العربية لغة علوم متنوعة وحضارة إنسانية عريقة وإبداع أدبي وفني ساحر؛ الأمر الذي يوجب تعليمها بعيداً عن الأفكار المسبق.