بدأ الإمام العز بن عبدالسلام مسيرة كفاحه في مسقط رأسه في دمشق ضد تطبيع العلاقات بين حاكم دمشق إسماعيل مع الصليبين، حيث سَلَّم إسماعيل الصليبين بعض حصون المسلمين، وسمح لهم بدخول دمشق وشراء السلاح منها، وتعاون معهم ضد سلطان مصر والشام الصالح أيوب خليفة السلطان الأيوبي الكامل.
فغضب الإمام وأصدر فتواه بحرمة التطبيع مع الصليبيين وموالاتهم ضد إخوانهم المسلمين، وصعد منبر المسجد الأموي الكبير، وذمَّ موالاة الأعداء، وقبّح الخيانة، وشنّع على السلطان، وقطع الدعاء له بالخطبة، وصار يدعو أمام الجماهير بما يوحي بخلعه واستبداله.
وخرج الشيخ من الشام متوجهاً إلى مصر، التي كانت وقتها مركز إدارة حكم الدولة الأيوبية، وذلك عام 639هـ ليستكمل مسيرة إيقاظ شعوب الأمة.
وفي أول مواجهة مع السلطة المركزية في مصر، أفتى بصفته قاضي القضاة بأن الأمراء وقادة الجند الذين اشتراهم الأيوبيون من أواسط آسيا (وكان منهم نائب السلطان ومعظم وزرائه وقادة جنده) لا يزالون في حكم الرِّقْ لبيت مال المسلمين، ولم يَثبُتْ أنهم أحرار، فأصدر فتواه بأن “ولايتهم لا تصح، ولا يصح لهم بيع ولا شراء ولا نكاح”؛ فكانت هذه الدعوة إسقاطاً صريحاً لشرعية النظام، فتزلزلت أركان الحكم، وحاولوا إثناء الشيخ عن فتواه باللين والمساومة، ثم التهديد.
وهنا أدرك الشيخ أن الأمراء تمالؤوا عليه، فقرر الاستقالة من القضاء، والرحيل عن مصر احتجاجاً على موقف السلطة، ونفذ قراره فوراً، فحمل أهله ومتاعه وخرج من القاهرة، وما إن انتشر الخبر في الشعب حتى قرروا التضامن معه وعصيان السلطة، ولحِقَ به على مشارف القاهرة غالب المسلمين من العلماء والصلحاء والتجار، حتى النساء والصبيان، فقال قائل للسلطان: “أدرك ملكك، وإلا ذهب بذهاب الشيخ”.
وهنا أذعنت السلطة وركب السلطان بنفسه، ولحق بالشيخ واسترضاه وطلب منه الرجوع والعودة إلى القاهرة، فوافق الشيخ بشرط تحرير الأمراء وقادة العسكر وبيعهم في سوق العبيد، وإيداع الأموال المتحصلة من البيع في بيت مال المسلمين.
وفي عام 657هـ، تقدم التتار بعد سقوط بغداد إلى الشام (وكان عمر الشيخ 80 عاماً)، وبعث ملك حلب في طلب النجدة من مصر لجهاد التتار، فجمع سيف الدين قطز العلماء والأعيان والقضاة لمشاورتهم في أمر مواجهة التتار وعزمه على فرض ضرائب على الشعب لتجهيز الجيش، فأفتى سلطان العلماء بوجوب قتال التتار، واشترط تجهيز الجيش من بيت مال المسلمين ومن ممتلكات الأمراء والقادة والجند حتى يقتصر كل منهم على سلاحه ومركوبه ويتساووا بالعامة، فإن لم يكن في هذه الأموال الكفاية لتجهيز الجيش يتم فرض ضريبة على الشعب، أما بدون الشرط فلا شرعية لفرض ضريبة يتحملها الشعب وحده.
وتوفي الشيخ عام 660هـ ودُفن بسفح المقطم وكان يومُ دفنه مشهوداً، وصلى عليه ملكُ مصر والشام الظاهر بيبرس، وحَمَلَ نعشَه وحَضَرَ دفنَه.
وأقيمت صلاة الغائب عليه في باقي الديار المصرية وفي المسجد الأموي بدمشق وفي سائر بلاد الشام والعراق والحجاز واليمن.
نحن هنا أمام عالم مجاهد يعي تماماً مقاصد الإسلام وتعاليم شريعته، ويعلم من خلالها أن السلطة السياسية هي أداة حكم خادمة للشعب وحارسة للشريعة، فإن لم تقم بذلك فلا طاعة لها.
ونحن كذلك أمام إسقاط للحدود الجغرافية التي صنعها لنا أعداء الأمة، وصارت واقعاً، ليس فقط بالحدود الجغرافية بل وبالحدود النفسية بين الشعوب التي يجمعها دين ولغة وتاريخ مشترك.
ونحن أمام واقع تاريخي يشهد لمؤسسة علماء الشرع في دورها الريادي والطليعي في إيقاظ روح المقاومة في الشعب، والدفاع عن حقوقه سواء ضد تغول السلطة الحاكمة أو ضد الغازي الأجنبي؛ حيث كانت هذه المؤسسة دوماً في مقدمة ثورات الشعوب ضد الغزاة وضد السلطات الظالمة، وساعدها في ذلك استقلالها عن السلطة، حيث كان موردها المالي من أوقاف المسلمين.