تناوَلَتْ مساهمتي الأخيرة في صحيفة «الشرق الأوسط» قراءة في كتاب «تشكيل مستقبل الثورة الصناعية الرابعة» للمهندس وعالم المستقبليات (كلاوس شواب) رئيس منتدى دافوس العالمي، وأعترفُ بأنّ مفاعيل هذه الثورة ومآلاتها المتوقعة صارت تمثلُ جبهة متقدّمة في هواجسي الفكرية الراهنة. واحدٌ من الأسئلة الجوهرية التي أفكّرُ فيها دوماً: ما شكلُ الكتابة المطلوبة في عصر الثورة الصناعية الرابعة؟ أو ربما بصياغة أكثر دقة: كيف ستكون مفاعيل التأثير الحتمي الذي سيترافق مع هذه الثورة على إعادة تشكيل العقل البشري، وبالتالي منعكسات هذا التأثير في آليات الكتابة في الحقول التخييلية Fiction وغير التخييلية Non – Fiction معاً؟
أعتقدُ أنّ الكتابة في عصر هذه الثورة الرابعة ستنطبع بميزات محدّدة:
الميزة الأولى: ربما كان لواء الكتابة الموسومة بالرصانة قبل مقدم الثورة الصناعية الرابعة معقوداً لأنفار معدودين تحصّلوا على تدريب مقترن بما نصفه بموهبة كتابية وشغف في أنماط سردية محدّدة. يبقى الشغفُ رافعة جوهرية لكلّ فاعلية إبداعية في جميع العصور؛ لكنّ المقدرة الكتابية لن تقتصر على نخبة موعودة بالأمجاد في مملكة الكتابة. لن يكون غريباً بعد اليوم أن يكون مهندسٌ متحصلٌ على شهادة البكالوريوس أو الدكتوراه في هندسة الحاسوب أو السيطرة الرقمية أو الذكاء الصناعي كاتباً أو صحافياً بارعاً يجيدُ فنون الكتابة الجديدة، وإذا أضفنا لهذه الحقيقة حقيقة ثانية مفادها نمطٌ غير مسبوق من الكتابة المحكومة بسياقات خوارزمية صارمة، فهذه سابقة ثقافية ينبغي الإشارة لها، والحديث عن حيثياتها الراهنة والمستقبلية.
الميزة الثانية: إنها كتابة تنطوي على هندسة خوارزمية، هي في نهاية الأمر ليست سوى تطبيق حازم وصارم لمفهوم الاقتصاد في الكتابة والابتعاد عن المسالك الالتفافية والمقاربات الحلزونية المثقلة بحمولة نحوية syntactic وبلاغية rhetoric ربما تستطيبها العربية، وتدفع الكاتب إليها دفعاً لا يستطيع مقاومة غوايته التي تفعل فعلها في أدق تلافيف دماغه. الأفكار البسيطة المباشرة أهم من ملاعبات اللغة وتلاوينها البلاغية، واللغة وسيط خوارزمي لنقل الأفكار: هذا ما يبشّرُ به عصر الذكاء الصناعي العميق AGI والذي سيغدو الخصيصة المميزة لنمط الكتابة البشرية المستقبلية. لو دققنا في هندسة الكتابة الموعودة في عصر الثورة الرابعة – والتي نشهدُ بعض نماذجها الطليعية في أيامنا هذه – لرأيناها سلسلة من عبارات قصيرة، سريعة، تكتفي بقيمتها الإخبارية المكتفية ذاتياً والتي تبتعد عن معاضدة المعاني بمفردات استعارية كثيرة أو إسفاف في المجازات البلاغية. إنها عبارات مكثفة تسعى لبلوغ عقل القارئ وملامسة روحه من غير ملاعبة أو توسل أو غواية أو عزف على أوتار حساسة. أتساءل دوماً كلما قرأتُ مقالة أو مادة مكتوبة بهندسة خوارزمية دقيقة لا تخفى على العقول والأنظار: هل ثمة كلمات تركها هذا الكاتب للمرحوم ويليام الأوكامي ليفعل فيها شفرته العتيدة؟!
الميزة الثالثة: إنها مكتنزة بمعرفة ثرية تستدعي من القارئ نظراً وتفكّراً وإعمالاً لجهد عقلي شغوف يدفع القارئ دفعاً للاستزادة والبحث في مفردات بعينها أو موضوعات بعينها. إنها مقالة بحثية بالضرورة ولا تكتفي بالتعليق العابر على وقائع محددة.
دعونا نفصّلْ في هذا الأمر بواقعة حصلت معي قبل بضعة أيام: قرأتٌ مقالة ثرية أحيت في شيئاً من نوستالجيا خبيئة في ثنايا الروح والعقل، ومردُّ تلك النوستالجيا (المعقلنة) إشارة وردت في المقالة لشخصية علمية عراقية متفوقة تمكّن فيها صاحبها بجهده ومثابرته بلوغ أعلى المراتب الأكاديمية الهندسية في كبريات الجامعات الأوروبية والأميركية. عقب قراءتي لتلك المقالة شرعتُ من فوري في البحث عن البروفسور العراقي موضوع المقالة. كان معظم بحثي في مصادر إنجليزية كما هو متوقع، وقد أمضيتُ كل يومي حينذاك في قراءة ومتابعة تفاصيل عن حياة البروفسور الأكاديمية في كبريات الجامعات العالمية؛ بل بلغ شغفي حدّ أنني قرأتُ تفاصيل دقيقة عن المبحث الهندسي الذي برع فيه وألّف عنه كتباً مرجعية ثلاثة صارت شواهد رصينة في ميدانها. هذه بعض أوجه المقالة المعرفية المؤثرة التي تحفّز في قارئها شغف المتابعة البحثية الجميلة التي تتعدى في الغالب المسعى الأوّلي الذي دفع القارئ للقراءة.
الميزة الرابعة: إنها كتابة تؤكّد دور العلم كأحد الأعمدة الأساسية البنيوية للأنساق الثقافية بدلاً من كونه عنصراً فوقياً غير مؤثر في تشكيل الحياة اليومية.
تتجلّى علاقة العلم بالبنية التحتية للثقافة في كَوْن العلم – وتطبيقاته التقنية المتسارعة – الأداة الأولى المعتمدة في خلق الثروة في عالمنا المعاصر بعد أن كانت الثروة قائمة على الملكيات العقارية الضخمة، ثمّ صارت تعتمد على الموارد الطبيعية في وقت لاحق قبل انفجار الثورات العلمية المتتالية التي تتوّجت بالثورة المعلوماتية – تلك الثورة التي تبشّر بولادة عصر ما بعد الإنسانية حيث سيكون نموذج (العقل البشري المعزّز بوسائط الذكاء الصناعي) هو النموذج المتوقّع بعد عشرين سنة من يومنا هذا.
ثم إن العلم هو القوة الأساسيّة التي حرّرت الكائن البشري من عبء العمل الميكانيكي الرتيب ووفّرت له الكثير من الوقت والمال اللازمين لكلّ ممارسة ثقافية، فضلاً عن أنّ العلم بذاته ليس محض قوانين ومعادلات رياضية فحسب؛ بل هو توليفة متكاملة ومتناسقة من أنساق مفاهيمية تمنح الفرد قدرة على رؤية العالم بطريقة متمايزة نوعياً عمّا يراه الفرد غير المؤهّل علمياً، وتنعكس مفاعيل هذه الرؤية على كيفية تشكيل الثقافة إلى حدّ أمسينا معه نشهد الكثير من المنظّرين الثقافيين وممارسي الثقافة المؤثّرين من الحائزين على أرقى المؤهلات العلمية في الفيزياء والرياضيات والهندسة وسواها.
وبقدر ما يختصّ الأمر ببيئتنا العربية، يبدو أنّ اختلالاتٍ هيكلية عميقة ضاربة الجذور قد تمكّنت من رسم معالم الأنساق الثقافية العربية ودمغتها بتلك السمات المعروفة عنها وهي – في معظمها – تتمحورُ على إعلاء شأن الاشتغالات النسقية الفكرية العتيقة وترسيخ سطوتها، وتقليدية المناهج الدراسية وتخلّفها، وغَلَبَة الدراسات اللغوية التقليدية التي جعلت اللغة العربية أقرب إلى ألاعيب حُواة وسَحَرة تعتمد على الفزلكات والمناورات بدل جعلها عاملاً مساهماً في النهضة الثقافية الشاملة عبر تطويعها المهذّب والمتناسق – من غير كثير تصنّع – مع التطوّرات الثقافية العالمية.
لا يمكن فصل التأثير المتبادل المفترض بين العلم والأنساق الثقافية في المشهد العربي عن نمط خلق الثروة لدينا؛ إذ ما زال العلم يُعَدّ عند كثير من الأوساط اشتغالاً فوقياً بعيداً عن ملامسة قاع البنية التحتية للثقافة، وتتعاظم معالم هذه (الفوقية) كلّما كان الاقتصاد ريعياً لا يتطلّب تفعيل كثرة من الاشتغالات المعرفية التي تقود مسيرة الاقتصاد المبشرة بخلق السيولة المالية اللازمة لإدامة زخم الثقافة والارتقاء بها.
إنّنا مُقبلون خلال عقدين من الزمان على عصر غير مسبوق ستكون فيه المعرفة العلمية الرفيعة والدقيقة ركناً أساسياً من مشهد المعيشة البشرية اليومية فضلاً عن الثقافة بكلّ أنساقها المتنوّعة، وليس هناك متسع لمن لا تشكل مفاهيم العلم لديه (مثل: الدماغ المعزّز بالقدرات الاحتسابية، الذكاء الصناعي العميق، الهياكل وخوارزميات البيانات، الحوسبة الكمّية… إلخ) ركناً جوهرياً في ثقافته العامة مثلما في حياته اليومية.
أبدى العالم – الروائي الراحل تشارلس بيرسي سنو امتعاضه من أنّ عُتاة المتمرسين بفنون الأدب الشكسبيري لا يعرفون شيئاً عن فحوى القانون الثاني للديناميكا الحرارية. حصل هذا الأمرُ عام 1959 من القرن العشرين. ربما سيكون أمراً مثيراً لو تساءلنا في يومنا هذا: ما المقايسة الجديدة التي سيضعها سنو للمعرفة المطلوبة لأناس يعيشُون على هذا الكوكب الذي يدخل عصر الثورة الصناعية الرابعة بتسارع لن ينتظر المتقاعسين الموهومين بموسوعية معارفهم.