يسعى السارد في تعاطيه مع فنه إلى الوصف؛ وهذا مدخل مثير للدهشة، الوصف رصد لأدق جزئيات الحياة والدخول إلى خفاياها، يحاول كما النحل البحث عن الرحيق، يترك قلمه ويسرح بخاطره، يغمض عينيه ويخايل مكان الشخصية التي يكتب عنها، يحاول أن يتخلص من إسر ذاته التي تتحكم في مسرح العرائس التي يحركها في عالم مفرداته وحبكة قصه، قدر ما يتخلص من هذا الرهق ويلقي بالقيد بعيدا ينجح في التجويد ويمتعنا بالإثراء، في ظني أن الراوي العليم مضر بالعمل السردي لو صار اللسان الناطق، مطلوب أن يكون متخفيا وإلا جاء السرد هشا سطحيا، روائع العمل يرويها من يجيدون ارتداء الأقنعة؛ نجيب محفوظ لم يكن أحد أبطال الثلاثية لكنه هم جميعا، تستطيع أن تراه عامر وجدي أو كمال عبدالجواد بل “زيطة” صانع العاهات؛ ارتدى أقنعة كثيرة كما ماركيز في روائعه؛ يعجبني باموق في حكيه ديستوفسكي في تسلله إلى شخصياته فيسرقها من عالمها ويقدمها إلينا.
ومن يقلد غيره يزوي وينتهي به إلى وراء تلال الموت والأقبية المعتمة من الذاكرة الإنسانية.
نحتفي بنصوص الجاحظ لأنها من عالمه وصورة نفسه؛ يبهرنا أبو حيان التوحيدي في مقابساته وحكمته.
لا تبحث عما يسليك في السرد بل ما يدهشك ويعنتك؛ ترتطم عند صخرته توقعاتك؛ لو اكتشفت مفاتيح رموزه لأول سانحة فهو غث.
أدق التفاصيل تصنع سردا هائلا؛ امرأة تبيع المناديل الورقية وتضع عطرا؛ تقف وقد تفتح حاجباها كمنجلي حصاد؛ شفتاها وقد صبغتهما حمرة ورد الربيع؛ نهداها يتراقصان حين تلوح بذراعيها؛ هذه لوحة بسيطة لحياة امرأة نمر بها؛ قد تكون عند إشارة مرور أو في منحنى طريق، يعابثها المارون؛ قد يصنع منها سارد قصة؛ أو يلتقط لها رسام صورة شخصية فتدخل معرضا فتكون حديث النقاد!
رجل يلتحي ويبيع أعواد البخور على “كوبري عبد” هل هو رجل الشرطة السري يبحث في وجوه العابرين؛ هل هو لص؟ أم تراه يبحث عن ثأره؟
لكن الإغراق في الوصف يرهل النص، ويجعله فاقد الحياة؛ فعلى المبدع أن يوازن بين الوصف والروي؛ حتى تظهر لكل واحد منهما طبيعته.
كما تلوح في الأفق شمس الضحى يختال شعاع السرد بين الظلال.
السردية العربية مثقلة بأعباء التدليس والتمويه مما تكسد في سجلات وأضابير الوراقة؛ فالبلاغة العتيقة شروح على الحواشي تتوه داخلها المتون؛ كما العقل المتخم بالنزق تبدو؛ علينا أن نقارب بين معجمنا وفصحى العصر في تبادل أدوار متناسق؛ ننفض الغبار عن كنز تحرسه رقابة المبدعين.
هذه صورة الإبداع كما أمسك بها قلمي؛ في صورة جميلة من الحكي يؤطره الواقع الممزوج بآلام ممزوجة بانتكاسات الحلم المغتال عمدا.
على القارئ أن يحذر من أن يكون واعظ منبر أو خطيب جمع مخدراً؛ في ذلك بيان للمبدعين وخط سير للقراء.
في مخيلة الكتاب منطلق للصور القادمة، يبدع الأديب في هروبه من عين الرقيب في لعبة أتقنها دبشليم الحكيم وأخفق فيها الحلاج؛ شط الأخير فكانت رقبته الجزاء الأوفى، هل نبقى هكذا أسارى الفن المخبوء وراء الرمز؟
على السارد أن يطالع حيوات الآخرين في مظانها؛ يقرأ لأدباء المشرق والمغرب، هي تجارب للإنسان تختفي وتظهر تعبر عن آلامه وأشواقه.
أجمل بالسرد أن يحمل ظلال الشاعرية حيث حفيف الأوراق وتراقص النحل وتنقلها على أشجار الغابة الكثيفة، يدهشني السارد الذي يذهب إلى الحارة المعتمة فينظر كائناتها المهمشة، بعيدا عن صخب المدينة توجد عوالم تستحق الحياة، غير بعيد من هذا الحديث عن أحلام الجوعى وخيالات الحالمين بفجر يغمر نوره الدنا.