السياسة الشرعية باب من أبواب العلم والفقه في الدين، وفي قيادة الأمة وتحقيق مصالحها الدينية الدنيوية، جليل القدر عظيم النفع، أفرده جماعة من العلماء بالتصنيف في القديم والحديث، وانتشرت كثير من مباحثه أو مسائلة في بطون كتب التفسير والفقه والتاريخ وشروح الحديث، وهذا الباب خطره عظيم ينتج عن الغلط فيه وعدم الفهم له شر مستطير، والخطأ في التفريط فيه كالخطأ في الإفراط؛ إذ كلاهما يقود إلى نتائج غير مقبولة، وقد وضح ذلك ابن القيم رحمه الله فقال: هذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها.. وأفرطت فيه طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه، وإدراكًا منَّا لأهمية هذا الباب وموقعه من الدين وحاجة الناس إليه، فقد رأينا أن نجعل له زاوية دورية في المجلة؛ سائلين الله تعالى أن يتحقق المقصود منها، وأن تقوم بالدور المراد منها على الوجه الذي يحب ربنا ويرضى، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في صدر كتابه السياسة الشرعية: ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من غير وجه أنه قال: “إن الله يرضى ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه أمركم”، ثم قال: وآية الأمراء في كتاب الله تعالى هي قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 58 – 59)، وقال: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور وعليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الآية الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله تعالى فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم -، وإن لم يفعل ولاة الأمور ذلك أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله، لأن ذلك من طاعة الله ورسوله وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله، وأعينوا على البر والتقوى ولا يعاونون على الإثم والعدوان، فعلى ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم: “«من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا وهو يجد أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» “. رواه الحاكم في صحيحه، وفي رواية: ” «من قلد رجلا عملا من عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» “، وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين. الله من وراء القصد.
والسياسة الشرعية تواجه نوعين من المسائل:
– أحدهما: جاءت فيه نصوص شرعية.
– والثاني: لم تأت فيه نصوص بخصوصه.
والفقه في النوع الأول يكون عن طريق:
1- فهم النصوص الشرعية فهمًا جيدًا، ومعرفة ما دلت عليه، والتنبه للشروط الواجب توافرها في تطبيق الحكم والموانع التي تمنع من تنفيذه، ثم يلي ذلك تطبيق الحكم وتنفيذه.
2- التمييز بين النصوص التي جاءت تشريعًا عامًا يشمل الزمان كله، والمكان كله -وهذا هو الأصل في مجيء النصوص- وبين النصوص التي جاءت الأحكام فيها معللة بعلة، أو مقيدة بصفة، أو التي راعت عرفًا موجودًا زمن التشريع، أو نحو ذلك.
والأول يسميه ابن القيم: “الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة”، بينما يسمي الثاني: “السياسات الجزئية التابعة للمصالح فتتقيد بها زمانًا ومكانًا”.
ومن مسائل هذه السياسات “النوع الثاني” منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم عن قوم كان يعطيهم إياه، وذلك لزوال تلك الصفة عنهم، فإنما كانوا يعطون لاتصافهم بهذه الصفة لا لأعيانهم، فلما زالت الصفة منع السهم عنهم، وليس في هذا تغيير للحكم وإنما هو إعمال له، وهو من باب السياسة الشرعية، وكذلك أمر عثمان رضي الله عنه بإمساك ضوال الإبل مع أن المنع من إمساكها مستفاد من سؤال أحد الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن إمساك الإبل فقال: ‘ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها ـ ترد الماء وتأكل من الشجر ـ حتى يلقاها ربها’، ومع النظرة الثاقبة في الحديث يتبين دقة فهم عثمان رضي الله عنه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ظهر من كلامه أنه يفتي عن حالة آمنة تأكل فيها الإبل من الشجر وتشرب من الماء، من غير أن يلحقها ضرر حتى يجدها صاحبها، فأما إذا تغير حال الناس ووجد منهم من يأخذ الضالة، صار هذا الحال غير متحقق، فإنها إذا تركت في هذه الحالة لن يجدها صاحبها، ومن هنا أمر بإمساكها.
والنوع الثاني من المسائل: وهو ما لم تأت فيه نصوص بخصوصه، فإن الفقه فيه يكون عن طريق الاجتهاد الذي تكون غايته تحقيق المصالح ودرء المفاسد، والاجتهاد هنا ليس لمجرد تحصيل ما يتوهم أنه مصلحة أو درء ما يتوهم أنه مفسدة، بل هو اجتهاد منضبط بضوابط الاجتهاد الصحيح، وذلك من خلال:
1- أن يجري ذلك الاجتهاد في تحقيق المصالح ودرء المفاسد في ضوء مقاصد الشريعة تحقيقًا لها وإبقاء عليها، والاجتهاد الذي يعود على المقاصد الشرعية أو بعضها بالإبطال هو اجتهاد فاسد مردود، وإن ظهر أنه يحقق مصلحة، أو يدرأ مفسدة.
2- عدم مخالفته لدليل من أدلة الشرع التفصيلية، إذ لا مصلحة حقيقية -وإن ظهرت ببادي الرأي- في مخالفة الأدلة الشرعية.
والنوعان الأول والثاني من المسائل قد تحتاج كل منهما -وخاصة في هذا العصر- لضمان حسن تطبيقه وتنفيذه إلى إنشاء هيئات أو مؤسسات تكون مسؤولة عن التطبيق والتنفيذ، وإنشاء هذه الهيئات أو المؤسسات في ظل موافقة مقاصد الشريعة وعدم مخالفتها لنصوصها التفصيلية؛ هو من السياسة الشرعية.
والاجتهاد في مسائل السياسة الشرعية قد يؤدي إلى’استنباط أحكام اجتهادية جديدة تبعًا لتغيير الأزمان مراعاة لمصالح الناس والعباد، أو نفي أحكام اجتهادية سابقة إذا ما أصبحت غير محصلة لمصلحة أو مؤدية لضرر أو فساد، أو غير مسايرة لتطور الأزمان والأحوال والأعراف، أو كانت الأحكام الاجتهادية الجديدة أكثر تحقيقًا للمصالح ودفعًا للمفاسد.
متطلبات النظر في السياسة الشرعية:
والنظر في السياسة الشرعية يتطلب:
– المعرفة التامة بأن الشريعة تضمن غاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها كاملة في هذا الباب صورة ومعنى؛ بحيث لا تحتاج إلى غيرها؛ فإن الله تعالى قد أكمل الدين وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3).
– الاطلاع الواسع على نصوص الشريعة مع الفهم لها ولما دلت عليه من السياسة الإلهية أو النبوية.
– المعرفة الواسعة الدقيقة بمقاصد الشريعة، وأن مبناها على تحصيل المصالح الأخروية والدنيوية ودرء المفاسد.
– التفرقة بين الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة، والسياسات الجزئية التابعة للمصالح التي تتقيد بها زمانًا ومكانًا.
– المعرفة بالواقع والخبرة فيه، وفهم دقائقه، والقدرة على الربط بين الواقع وبين الأدلة الشرعية.
– دراسة السياسة الشرعية للخلفاء الراشدين والفقه فيها.
– معرفة أن الاجتهاد في باب السياسة الشرعية ليس بمجرد ما يتصور أنه مصلحة، وإنما يلزم التقيد في ذلك بالمصالح المعتبرة شرعًا.
– رحمة الناظرين في هذا الباب بعضهم بعضًا عند الاختلاف في مواطن الاجتهاد. والله من وراء القصد.
_____________________
(*) واعظ بالأزهر الشريف.