د. محمد الجوادي
كان أنطون سعادة (1904 ـ 1949) المصنف إرهابيا عند الساسة العرب التقليديين رجلاً عظيماً، ومفكراً حقيقيا، ومع أن أحداً من غير أنصاره لم يقل بهذا من قبل فإني أقول هذا وأنا مطمئن الضمير بل إني أقول ما لم يقله محبوه وهو أنه النسخة اللبنانية من الإمام الشهيد حسن البنا ١٩٠٦- ١٩٤٩ وأظن أن المعامل الاستراتيجية العالية القيمة في الغرب تعرف هذه الحقيقة معرفتها للكنوز التي لا تبوح بسرها، لكنها تعالجها بالإخفاء حتى لو كان هذا الإخفاء يستدعي إجراء من قبيل القتل، وفي مثل حالة هذين الرجلين اللذين قتلا في خلال ٥ شهور فإن القتل سهل جدا من خلال تداعيات فسيولوجية وسيكولوجية في مجتمعات الرجلين وهي مجتمعات قابلة للرباعية التي أصفها بأنها لا تستدعي بعضها تلقائيا كما يظن لكنها إذا اجتمعت كانت خطرة وهي رباعية العصبة والتعصب والعصبية والعصاب . ومع أن أنطون سعادة أُعدم بحكم قضائي صدر ونفذ خلال ساعات، ومع أن اسمه شوه بما فيه الكفاية، ومع أن تفكير جماعته أدين بالإرهاب، ومع أن حوادث إرهابية نُسبت إليه وإلى فكره قبل موته وبعد موته فإن أنطون سعادة يبقى في تاريخ العرب علامة فارقة على عجز النخبة عن فهم الذات والتعلق بها وإدراك أهمية البحث عنها.
ربما كان العنوان الذي اخترته قابلا للوصف بأنه نصف صادم، وربما كان هذا عن قصد مني لأني لم أشأ أن أقدم الفكرة الصادمة مرة واحدة ولكني أقدمها الآن فأقول إن أنطون سعادة مع حسن البنا كانا من ضمن أسباب النهضة الفعلية التي حمت المشرق العربي من ظواهر خطرة من قبيل الفرسنة وما يوازيها (أولا) والفرنسة وما يوازيها (ثانيا) ومن الصهيونية في الوقت نفسه، وبالطبع فقد حمت هاتان الفكرتان المشرق العربي من الإمبريالية بمعناها الفكري كما أنهما حمتا المشرق العربي من الأمركة بمعناها الاستعماري، وبالتحليل العقلي المجرد فليس هناك فارق كبير بين النمط العقلي للإمام الشهيد حسن البنا وأنطون سعادة على الإطلاق إلا عند الذين يبدأون أحكامهم من حيث ينبغي أن ينتهوا، وينتهون بأحكامهم إلى حيث كان يجب عليهم ان يبدأوا، ولهذا السبب فإنني بعيداً عن البناء التاريخي لهذه المدونة أو هذا الفصل أو هذا المقال سأقدم التعريف بأنطون سعادة بطريقة تكفل تصحيح الشائع عنه فيما هو منقول ومتداول على مدى السنوات الطوال الماضية منذ ما قبل رحيله وحتى الآن، وسأتناول ما أريد أن أقوله للقارئ من خلال أربع زوايا متتابعة تبدأ بما هو أكثر صراحة ثم تتطرق إلى ما هو نظري أو فلسفي رمزي في صميمه.
1. أولا: كتب أنطون سعادة بكل وضوح ما يعبر عن المعنى الذي يُجمع عليه المسلمون الذين يؤمنون بأن الدين عند الله الإسلام، وقد جمع مقالاته تحت عنوان «الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية» فهل يمكن لأحد أن يخرج بمن يكتب مثل هذا العنوان ولا نقول المضمون، عن عقيدة الإسلام نفسه حسب ما يعرف في لغة العلم بأنه تعريفها الصلب أو الجوهري .
2. ثانيا: أهم مؤلفات أنطون سعادة هو كتابه «نشوء الأمم» وهو يقدم فيه نظرية مختلفة تمام الاختلاف عن النظرية المستقرة في علم الاجتماع الغربي أي أنه لم يسلم بجوهر النظرية الغربية التي يتبناها ويلجأ إليها ويلجئ إليها الغرب المُعلم أي الغرب الأكاديمي، وهو أي الغرب يعول على الجوهر المسئول عن نشر الفكر المساند لمركزيته، وقدرته على الاستعمار، أما حسن البنا وأنطون سعادة فلا ينفيان ولا يتجادلان ولكنهما بأدواتهما البسيطة يبدآن بداية موازية، لا تمانع في الاقتراب والابتعاد من آن لأخر، ويكمن هذا الاختلاف على سبيل المثال في أن نظرية أنطون سعادة لا تفعل ما يفعله الغربيون من الالتفاف حول الإسلام كمؤسس للأمة الإسلامية باللجوء إلى نظريات الأعراق والسياسة، والبناء على هذا الجوهر، فهل يستطيع أحد أن يقول إن المسلمين المعاصرين رزقوا من بينهم من تصدى لمثل هذه المهمة التي تصدى لها أنطون سعادة بالنيابة عنهم مبكراً وبجهد فردي تطوعي فدائي كلفه حياته من دون أن يعرف أهله المسلمون قيمة ما فعله؟
3. ثالثا: كانت حملة أنطون سعادة القومية أثناء حرب فلسطين من أقوى الحملات في الشارع السياسي، وبالطبع فإن الغرب ضغط على الحكومة اللبنانية من أجل فرملة هذا التوجه الشعبي الجارف على نحو ما كان يضغط على السلطات المصرية من أجل فرملة الإخوان المسلمين والحركات المشابهة في هذا الصراع الذي عبر عن ثلاثة صراعات تداخلت وتآزرت وهي صراعات دينية وقومية ومعسكرية (بين معسكر الاحتلال ومعسكر المحتل بفتح التاء) فهل يستطيع أحد أن ينكر قيمة مجهودات أنطون سعادة التي جعلت المزايدة بالتصريحات مكشوفة بعد أن تعبأ الشارع العربي بمثل هذه المشاعر القومية في مواجهة مشاعر قومية تريد أن تقيم دولة قيل بوضوح أنها قومية على أرض الغير (في الشرق) بمعونة من الغير (الغرب)؟
4. رابعاً: كان الفارق الكبير بين حزب أنطون سعادة وحزب البعث العربي أن الحزب السوري القومي نص في اسمه على “الاجتماعي” بينما كان “الاجتماعي” عند البعثيين يكاد يصرح بأنه سيعتمد على الخلطة الجاهزة المتاحة من الشيوعية النظرية والشيوعيات التحريفية المتاحة، وليس هذا الفارق الذي لم يتحدث عنه أحد بالأمر الهين فبسبب هذا الفارق الجوهري كان الحزب القومي أكثر حيوية من البعث وإن كان قد صار أقصر عمرا بفضل الدعم الذي قدم للبعث في مواجهته، حتى وإن لم يعرف البعث أنه كان مستساغا عند الغربيين بأكثر من أنطون سعادة، ولم يكن النص على “الاجتماعي” في حرب ” أنطون سعادة” من باب الاستيعاب على نحو ما يظن قارئ التاريخ وإنما كان معنى “الاجتماعي” الذي يقصده أنطون سعادة مرتبطا بما هو سابق على السياسي أي أنه كان ينظر إلى مهمته السياسية في إطار انتمائه الاجتماعي، وليس كما يتصور البعض أنه كان ينظر إلى مهمته الاجتماعية في إطار توجهه السياسي، على نحو ما يفعل وفعل الآخرون. وبعبارة أخرى: فإنه كان ينطلق من مجتمع يتطلب سياسة ويفرضها، ولم يكن ينطلق من سياسة تُعنى بالنواحي الاجتماعية، ومن العجيب أن هذا هو الجوهر نفسه الذي حكم نشأة جماعة الإخوان المسلمين .
كيف أمكن لأنطون سعادة على حداثة سنه وقصر عمره أن يدرك كل هذا وأن يكون كل هذا؟
هنا نستطيع أن نقرأ تاريخ حياته على نحو ما هو متداول، وعلى نحو ما لخصناه في موضع آخر، والتاريخ المروي في المصادر المتاحة عن حياة أنطون سعادة في مجمله صحيح إلى حد بعيد، وإن كان هناك اختلاف في جزئية هنا أو هناك لكننا نستطيع أن ندرك أن سعة الأفق لم تأت من فراغ، وأن ندرك قيمة البدايات التأسيسية على يد والده العظيم الدكتور خليل سعادة (1857 ـ 1934) صاحب الفضل في ترجمة إنجيل برنابا والتعريف به، وأن ندرك قيمة الارتحال ولا نقول الرحلة، وأن ندرك قيمة الاحتكاك المبكر بالأمريكيين الأذكياء الراصدين للفكر المستنير والمحاربين له على نحو ما فعل رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت (1935) الذي كان من أول المبلغين لجهات الأمن اللبناني والأمن الدولي (!) عن نشاط أنطون سعادة مع أنه لم يكن قد تجاوز بعدُ أي عرف من أعراف النظام والانضباط ولكنه في الحقيقة كان كاشفا بالضوء الصادق عن قسوة الاستعمار الجديد والتبشير التقليدي والاحتواء الخبيث؛ لأنه كان داعيا فذاً للأصالة بكل ما تعنيه فيما يتعلق بالعقيدة والمجتمع والتقدم والفكر والثقافة والعطاء على كل حال.
* المصدر: مدونات الجزيرة.