قد يبدو الوضع في ظاهره هادئاً سياسياً في الأردن إلا أن تحت الرماد جمر ملتهب لا يبعث على الاطمئنان.
يعيش الأردن حالة من الاختناق السياسي الداخلي، وإن كانت كل الظروف الخارجية تعطي أريحية للنظام في الأردن من قدوم بايدن للبيت الأبيض إلى تحسن علاقة الأردن مع الدول المحيطة، إلى انتهاء “الربيع العربي” وتمدد الثورات المضادة في الحزام المحيط في الدولة الأردنية، إلا أن الوضع الداخلي لا يبدو أنه يبعث على الارتياح والاطمئنان.
في الأردن، تتوالى الحكومات المعينة دون أي إنجاز حقيقي على الأرض في مواجهة الفقر والبطالة والمرض والجوع، فلا شيء يحدث مع كل حكومة إلا تضخماً في المديونية التي تجاوزت 114% من الناتج المحلي الأردني السنوي، إذ تعتبر المديونية في الأردن من أعلى المديونيات في العالم العربي بعد لبنان.
القادم إلى الدوار الرابع مقر ومركز رئاسة الحكومة لا يأتي بإرادة الشعب، يأتي ويذهب ولا أحد يستطيع معرفة لماذا جاء الرئيس؟ ولماذا ذهب؟ وبنفس الوقت لا أحد يستطيع محاسبة الرئيس وفريقه الوزاري عن أي أعمال قاموا فيها، فهم محصنون من كل محاسبة عن جميع الأعمال التي قاموا فيها حتى بعد رحيلهم من مناصبهم الوزارية.
يتم تشكيل الفريق الوزاري من قبل رئيسه بالمعرفة الشخصية، وغالباً ما تغيب الكفاءة السياسية، وإن حضرت الكفاءة التكنوقراط أحياناً، لكن غياب الكفاءة السياسية وخبراء العمل العام يجعل الحكومات فقيرة جداً في الإنجاز السياسي؛ مما ينعكس على مستقبل البلاد الآخذ في التردي في كل المجالات.
كذلك الأمر بالنسبة للمؤسسة التشريعية التي قاطع الذهاب إلى صناديق الاقتراع 71% من الشعب الأردني كأكبر رسالة احتجاج شعبية على إدارة الملف الداخلي الأردني، إضافة إلى عمليات الطعون والتشكيك في نزاهة العملية الانتخابية وقدرتها حتى على إفراز من انتخبته الأقلية التي ذهبت للانتخابات.
الحديث يدور عن هندسة المجلس ورسم شكله قبل أن تجري الانتخابات بشهور، الشعب لديه قناعة أن بعض الجهات هي التي تقرر نيابة عن الشعب من يمثلهم داخل القبة، ومن رصد مواقع التواصل الاجتماعي ومن خلال الإحجام الشعبي عن المشاركة في العملية الانتخابية تستطيع تحديد مستوى الثقة الشعبية المتدني في المؤسسة التشريعية.
على مستوى النقابات ومنظمات المجتمع المدني، المشهد لا يقل سوءاً وقتامة، الحديث يتم عن التجهيز حكومياً إلى حل نقابة المعلمين أكبر نقابة مهنية في الأردن التي دخلت في صراع كبير مع الحكومات الأردنية المتعاقبة خلال السنوات الأخيرة لتحسين حياة المعلم الأردني الذي تعرض للتهميش والتهشيم في العقد الأخير، وأصبح في وضع مهني يرثى له.
فيما دخلت الحكومة الحالية في صراع مع نقابة المحامين الأردنيين، دفعت أصحاب المعاطف السوداء ليخوضوا إضراباً عن العمل ووقف الترافع أمام المحاكم، بذات الوقت نشرت الحكومة الأردنية إعلاناً عن لجنة لتصفية ممتلكات جماعة الإخوان المسلمين الأم في الأردن، بعد أن تم حلها بيد القضاء، التي تم تأسيسها منذ تأسيس الدولة الأردنية، وبذات الوقت دخلت في صراع مع نقابة الصحفيين من خلال إحالة الصحفيين إلى محكمة أمن الدولة لمجرد نشرها مقالاً عن اللقاحات والاستفسار، فيما إذا كانت وصلت للأردن وأعطيت لكبار موظفي الدولة دون الشعب.
في ذات الوقت، يتم تهشيم الأحزاب وتهميشها والتعامل معها بطريقة الإضعاف والعزل المجتمعي، من خلال عقلية ومقاربات أمنية تعتقد أن الحرية والحزبية نقيض للأمن والاستقرار السياسي.
ترافق ذلك مع ظهور حالة المعارضة الخارجية ذات الصراع الصفري مع النظام، وهي الحالة التي لم يكن يسمح بوجودها سابقاً إذ سرعان ما كان يقوم النظام باحتضان تلك المعارضة ويعيدها إلى أرض الوطن ويشركها في الحكم، هذه المعارضة بدأت أكثر تنظيماً لنفسها وسهل عملها وقدرتها على التأثير في الشارع الأردني هو تواجد مواقع التواصل الاجتماعي إذ وصلت متابعة بعض الصفحات وما يبثه المعارضون على مواقع التواصل مشاهدات أكثر من مشاهدات ما يبثه التلفزيونات المحلية الأردنية والأذرع الإعلامية الموالية للنظام.
كل ذلك يترافق مع تخلي الدولة الأردنية عن سياسة الدولة الريعية ووصول مظاهر الاحتجاج في الأردن إلى القبائل الأردنية في مدن الأطراف التي كانت الركيزة والشريكة الأساسية لنظام الحكم على مدار القرن الماضي منذ تأسيس إمارة شرق الأردن.
وصول المعارضة الخشنة ذات السقف المرتفع للنظام الحاكم في الأردن إلى أبناء القبائل الأردنية مؤشر كبير على تقلب المزاج السياسي للشعب الأردني واختلاف ظروف التفاهمات التي دامت قرناً من الزمان مع النظام الأردني، وشكلت عاملاً من عوامل الاستقرار السياسي في الأردن.
إضافة إلى الحديث والقناعات الشعبية عن استشراء حالة الفساد في النخب السياسية الحاكمة، وتعمق نظام الطبقية الاقتصادية وتقاسم المال العام بين النخبة الحاكمة والدوائر المحيطة فيها، كل ذلك يشعل السخط في نفوس الأردنيين ويشعرهم بعدم جدية مؤسسات الدولة في مكافحة الفساد والقضاء عليه، ويصور لهم أن كل البؤس الذي يعيشون فيه نتيجة طبيعية لحالة الفساد القائمة.
كل ما في الأردن يشير إلى وجود حالة من الاختناق السياسي الداخلي، وأن هذا الاختناق يستدعي كل ظروف عدم الاستقرار والانفجار السياسي، وأن ذهاب صناع القرار لمقاربات الحلول المؤقتة وعدم رد سلطة الشعب للشعب لن يستطيع أن يدوم طويلاً، وأن “الربيع العربي” موجات، وإن كانت تكسرت في موجته الأولى بالأردن على صخرة البيروقراط والظروف الإقليمية المحيطة، إلا أن بواعث هذا الحراك المجتمعي يتم إشعال النار تحتها كل يوم، وأن حالة البقاء على تلك المعادلة وتلك المقاربات لن تدوم طويلاً.
دولة مثل الأردن لا تملك الثروات الطبيعية ولا الموارد الاقتصادية المتنوعة، وكل ما تملكه وتستثمر به هو الكفاءات الشعبية المكتنزة بالمعرفة والإصرار على النهوض والمتشربة لحب وطنها، كل ما يريده هذا الشعب رد سلطة الشعب للشعب، ليحكم نفسه وفقاً لقواعد الحكم الرشيد، ليُخرج أفضل ما به من طاقات للاستثمار الأفضل والأمثل للإمكانيات الأردنية المتاحة.