“في سنك فعلت كذا وكذا”.. جملة مألوفة نسمعها عادة من آبائنا الذين يرون أنفسهم مرجعا تربويا نفشل إن لم نتطابق مع معاييره. يتناقل الكثير منذ الأزل بمُختلف الثقافات والمجتمعات أساليب مُتعددة للتربية؛ حيث يُعتبر تناقل النُصح بين الآباء من أكثر الأساليب التربوية شيوعا؛ فهي مُجربة ونتائجها مؤكدة. إذ تكتسب هذه النصائح ثقة مُتلقيها لأنها بعيدة عن الكلام المُنمق المُدون في الكتب، وتكتسب ثقة أكبر مع مرور السنوات وانتقالها من الجد للأب للابن الذي سيُصبح أبا ناصحا فيما بعد. هذه النصائح النظرية يغلب عليها الطابع الموروث دون دراسة تُثبت كفاءتها من عدمها، وفي الكثير من الأحيان يُستهان بالعديد من الآثار الجانبية التي تُخلفها النصيحة على نفسية الطفل؛ التي بإمكانها -بكل بساطة- أن تخل توازنه النفسي.
التربية، الأمومة والأبوة، مُصطلحات تصف وظائف تُعد من أصعب الوظائف وأشقها وأكثرها حساسية ومسؤولية. وعلى سبيل المثال، المرضى بالمرض نفسه تختلف استجابة أجسادهم للدواء نفسه، وهذا تماما ما يُمكن إسقاطه على عالم النصيحة؛ فلا تُعمم فاعليتها على كل الحالات المُختلفة والمُتباينة بين الأبناء، ونجاح وسيلة تربوية مع طفل ما، لا يعني بالضرورة أن تنجح مع باقي الأطفال -تختلف بين الإخوة في الكثير من الأحيان-. ولكن العلم يحسم الجدل، والتفت للأسباب والصفات والسلوكيات المُشتركة بين الآباء والتي قد تكون عاملا مؤثرا في بناء شخصية غير ناجحة للأبناء؛ فما وجهة نظر علم النفس فيما يخص الأساليب التربوية الفاشلة التي يعتمدها الأهل الذين يقع على عاتقهم -أحيانا- فشل أبنائهم؟
لا يُشجعون أبناءهم على الاستقلالية
إن توجيه الأبناء لا يعني السيطرة على كل ما يخصهم، بل على العكس، منح الأبناء الاستقلالية في اتخاذ بعض القرارات وتحمل بعض المسؤوليات قد يُعزز من ثقة الطفل بذاته وعدم الاعتماد الدائم على مُفكرٍ يُفكر عنه في كل كبيرة وصغيرة. وهذا بالفعل ما أكدته دراسة أُجريت في جامعة فاندربيلت في عام 1997 وكان مفادُها أن الآباء والأُمهات الذين يُسيطرون نفسيا على أبنائهم يخلقون نتاجا سلبيا على الطفل من أهمها انعدام ثقته بنفسه وعدم اعتماده على الذات. وفي مجلة للبحوث الخاصة في المراهقة ذُكر أن منح الطفل -خاصة المراهقين- الاستقلالية قد يكون أمرا جيدا يُساعده في حل نزاعاته وعلاقاته الشخصية. وبالإضافة إلى ذلك وجدت هذه الدراسة دليلا على أن منح المزيد من الاستقلالية يمكن أن يؤدي إلى زيادة في قدرة المراهقين على مقاومة ضغط الأقران.
يُكثرون من الصُّراخ عليهم
في عام 2013 أُجريت دراسة في جامعة بيتسبرغ، وجدت أن التأديب اللفظي القاسي أو الشتم أو استخدام أسلوب الإهانة قد يضر بجودة نفسية الطفل على المدى البعيد. وهُناك دراسة أُخرى دامت لمدة سنتين وجدت أن المواظبة على استخدام التوبيخ اللفظي القاسي كان مَدخلا رئيسيا للاكتئاب. وقال كاتب الدراسة في تصريح صحفي: “هذه دعوة للآباء والأمهات للتركيز وعدم الانجراف في هذه الدوامة، دوامة الصراخ، تلك السلوكيات من أطفالكم التي تجعلكم راغبين في الصراخ والتوجيه اللفظي تدفعهم إلى تكرار السلوكيات نفسها مرارا وتكرارا دون توقف”. تتفق جميع الدراسات على أن الصراخ لا يؤدب! ويمكنك استخدام الصراخ فقط لوقف تصرف يقوم به طفلك الآن ويُعرضه للخطر.
“هليكوبتر” التربية
استُخدم مصطلح هليكوبتر الأبوة والأمومة لأول مرة في عام 1969 في كتاب “بين الآباء والمراهقين” للدكتور هايم جينوت، وأصبحت العبارة شائعة جدا ودخلت في قاموس معاني اللغة في عام 2011.
في حين أنه من الجيد جدا -بلا شك- أن يكون الأهل حاضرين في حياة أطفالهم، فإن الإفراط في الحَوم في دواخل الطفل كطائرة الهليكوبتر قد يكون أمرا مُعاكسا للتوقعات؛ بل ويمكن أن يكون سببا للقلق والاكتئاب. وهذا ما أكدته دراسة أُجريت في عام 2013 على ما يُقارب 300 طالب من طلاب الجامعات، فكتب أحد القائمين على الدراسة في مجلة “Journal of Child and Family Studies”: “الطلاب الذين أبلغوا عن سيطرة مُفرطة من قِبل الآباء، قد سجلوا مستويات مُرتفعة جدا من الاكتئاب وعدم الرضا عن الحياة بشكل عام”. وهذه دراسة واحدة من عدد كبير من الدراسات الأخرى التي تُشير إلى وجود رابط واضح وصلة مُمكنة بين الاكتئاب والسيطرة المُفرطة من قِبل الآباء.
يتركون قرار نوم أطفالهم بأيدي أطفالهم
وجد باحثون في بريطانيا وجود صلة بين عدم انتظام وقت النوم والعشرات من سوء السلوك مثل: فرط النشاط، صعوبات عاطفية، وعدم الاندماج مع الأقران. وقالت ايفون كيلي، وهي إحدى القائمات على الدراسة في تصريح لمجلة “Medical News Daily” الطبية: “نحن نعلم أن نمو الطفل في المرحلة المُبكرة يترتب عليه تأثيرات عميقة على مدى الحياة الصحية بأسرها. لذلك اضطراب أوقات النوم -خاصة في مرحلة النمو المُبكر- قد يكون له تأثيرات على الصحة والدماغ مدى الحياة”.
يسمحون لهم بمشاهدة التلفاز في عمر صغير جدا
نشرت دراسة أُجريت في عام 2007 أن تعريض الأطفال قبل سن الثالثة لشاشة التلفاز قد يكون سببا رئيسيا لعدة مُشكلات؛ منها: التأثير على المُفردات (تأثير لغوي)، عدم المشاركة اجتماعيا (تأثير في المهارات الاجتماعية)، وجعلهم أكثر تنمرا على زملائهم لحظة دخولهم رياض الأطفال. وأيضا؛ كان هُناك ارتباط واضح ووثيق بين الإكثار من مُشاهدة التلفاز ومشكلات التركيز، وضعف القراءة وإتقان الرياضيات. وقد أشارت بعض الدراسات إلى أن البرامج التعليمية مثل “شارع سمسم” أو “بارني” مفيدة، ولكن للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين سنتين ونصف إلى خمس سنوات -فقط-. يُمكننا إضافة الألعاب الإلكترونية لقائمة المحظورات، حيثُ يرى الدكتور والمستشار التربوي خليل الزيود أن إدمان الألعاب الإلكترونية وتعريض الطفل للشاشة قبل سن خمس سنوات من شأنه أن يُدمر في الطفل 3 مهارات دماغية: التركيز، القدرة على الحفظ، ومهارة التذكّر.
آباء مُستبدّون
في أواخر الستينيات وجدت عالمة النفس التنموية ديانا بامرايد أن هناك ثلاثة أنماط أساسية من الأبوة والأمومة: المُتساهلة، المُستبدة السلطوية، والمبنية على الثقة. المبنية على الثقة بالطبع هي الأفضل؛ وهي العلاقة التي يكون فيها الآباء والأمهات منفتحين في توجيهاتهم بعقلانية لأطفالهم. أما الأسوأ، مما لا شك فيه، فهي الأبوة والأمومة المُستبدة التي يكون بها الأهل متطلبين للغاية ومُثبّطين لأي نقاش مفتوح بينهم وبين أبنائهم. فعلى سبيل المثال، الأهالي السلطويون يطلبون من أبنائهم أداء عظيما وعلامات متقدمة في المدرسة وتكون حجتهم: “لأني قلت لك ذلك!”، أما أولئك العقلانيون فيُبررون لأبنائهم ضرورة التقدم العلمي والعلامات المتقدمة التي من شأنها أن تبني له مستقبلا أفضل.
يستخدمون هواتفهم أثناء وجودهم مع أطفالهم
أظهرت دراسة نُشرت في عام 2016 في مجلة الطب النفسي الانتقالي أن الآباء المُشتتين يُمكن لتشتتهم أن يُؤثر سلبا على نمو أطفالهم. ولكن الدراسة أُجريت على الفئران ومن غير المؤكد -بعد- تطابق النتيجة على البشر. على الجانب الآخر، بحسب ما نُشر في صحيفة وول ستريت (Wall Street Journal)؛ فإن بعض أطباء غرفة الطوارئ، الذين لاحظوا ارتفاعا غير مسبوق في ارتفاع عدد إصابات الأطفال، يعتقدون أن التكنولوجيا والهواتف الذكية قد يكونان من الأسباب الرئيسية التي تُشتّت الآباء وتصرف اهتمامهم عن الانتباه لأطفالهم.
مشاعرهم باردة أو بعيدون عن أطفالهم
من الصعب حقيقة فرض مُعادلة دقيقة تضمن لك نتائج تربوية سليمة 100%، ولكن يبدو أن هُناك علاقة طردية واضحة تربط بين دفء الوالدين وانعكاس دفئهم على سلوك أطفالهم، فالعديد من الدراسات كشفت أن انخفاض مستوى الدفء وبرود العلاقة بين الآباء والأبناء تُسهم في بناء مشكلات سلوكية إلى جانب عدم الإحساس بالأمان والميل إلى العُزلة. ووفقا لواحدة من الدراسات التي أُجريت في عام 1986 فإن الأطفال الذين يفتقرون إلى الثناء الأبوي هم أكثر عُرضة للقلق والاكتئاب والانسحاب من المجتمع.
يلجؤون للضرب (على مؤخرة الطفل) كعقاب
قد يبدو أنه العقاب الألطف، الأقل ضررا، إلا أن هذا الأسلوب من الضرب أخذ جزءا بالغا من اهتمام بعض الباحثين، الذين أكدوا أن استمرار استخدام هذا النوع من العقاب مع الطفل ارتبط بمشكلات مختلفة مثل فرط النشاط والعدوانية والتنمر تجاه الأطفال الآخرين. وفي دراسة أُجريت في عام 2000 وجدت أن أطفال الصف الأول الذين يعاقبهم آباؤهم بهذا النوع من الضرب؛ كانوا أكثر عُرضة لافتعال المشكلات مع زملائهم، لتأتي من بعدها دراسة تحليلية في عام 2016 من جامعة تكساس في أوستن تستند إلى خمسين سنة من البحث والتجربة على 160,000 طفل، أكدت وأظهرت أن الضرب على المؤخرة يرتبط ارتباطا واضحا بمشكلات الصحة العقلية والصعوبات المعرفية لدى الطفل. وأشار الدكتور فيل في إحدى حلقاته إلى دراسة تؤكد أن الأطفال الذين يتعرضون لهذا النوع من العقاب باستمرار ينخفض معدل ذكائهم (IQ) بنسبة 5 درجات في سن الخامسة.
على الرغم من الدراسات العديدة والمجالات التي يُبحث فيها عن الأسرار التي تُكوّن شخصية الطفل وتؤثر عليه سلبا أو إيجابا، فإنه -كما ذكرنا- توجد أرضية ثابتة ينطلق منها جميع الآباء، ولكن النتيجة تختلف بين طفل وآخر. يبقى المجال مفتوحا للأم والأب باختيار الأساليب التي تتناسب مع أطفالهم وتمنحهم سنوات أولى -معقولة- بعيدة عن التعنيف والأذى النفسي أو الإهمال؛ فهذه السنوات هي اللبنة التي ستُبنى عليها الشخصية العامة للطفل، والتي بشكل أو بآخر تؤثر على المكان الذي يحجزه في المُستقبل!
* المصدر: الجزيرة.نت.