قال المفكر المغربي وأستاذ العلوم السياسية الأستاذ الدكتور محمد الحساني: إن التطبيع سرطان ينتشر في الجسم رويدا رويدا، متشعب الأبعاد، يخرب القيم والسلوكيات والثقافة، نحن أمام طوفان ستفتح له جميع الأبواب.
وأكد في الحوار الذي أجرته معه مجلة المجتمع أن التجربة التاريخية والميدانية أثبتت أن الكيان الصهيوني يأخذ ولا يعطي، يستفيد ولا يفيد هذا واقع التاريخ والميدان، وأكد أن هناك العديد من الدول التي طبعت سابقا مع الاحتلال وأن هذه الدول لم تأخذ أي مكاسب مقابل ذلك.
وتطرق الحوار لعدد من القضايا في هذا السياق منها موقف حزب العدالة والتنمية، وكذلك موقف الشارع المغربي…
أسئلة الحوار:
* ما حدث بين المملكة المغربية والكيان الصهيوني هل هو تطبيع أم إعلان للتطبيع القديم؟
كل مطبع من الأنظمة العربية يحاول أن يبحث عن مبررات لخطيئته التي قام بها؛ لأنه مدرك تمام الإدراك أنها خطوة غير منسجمة لا مع ثوابث الإسلام ولا مع المبادئ الأخلاقية والمواثيق الدولية.
كذلك الأمر بالنسبة للمغرب؛ فورقة اليهود المغاربة والأواصر التي تربطهم بالمغرب ونسبة عددهم داخل الكيان الصهيوني التي تقارب المليون، كانت إحدى الشماعات التي حاول من خلالها المغرب تبرير موقفه بالإضافة إلى طبيعة العلاقات التي كانت تربط المغرب والكيان الصهيوني في فترة التسعينات.
هذه مسوغات يدرك المغرب أنها غير مقبولة وأنها مجرد تخريجات، بينما حقيقة الأمر أنه تطبيع كامل الأركان بل هرولة إلى التطبيع بشكل هستيري.
فالربط بين ما كان -وهو أصلا لم يكن مقبولا- وما هو عليه واقع اليوم -أي خطوة التطبيع الحالية- لا يستقيم ولن يستقيم، وإنما هو لف ودوران مكشوف لأنه حتى الدولة المغربية تدرك جيدا أن ما تقدمه من ربط غير مقنع، لكن لا بد من مسكنات تقدم لعموم الشعب المغربي لرفع الحرج عنه.
* ما رأيكم في المقايضة التي قامت بها المغرب وهي “الصحراء مقابل التطبيع” من الناحية الأخلاقية وكذلك السياسية؟
هي مقايضة أضرت بالقضية الوطنية وذلك لعدة اعتبارات:
١-قضية الصحراء المغربية هي قضية إجماع وطني تتجاوز نسبته .99%
-قضية الصحراء المغربية قضية قدم من أجلها المغاربة شهداء من أبنائه وتحملوا من أجلها أموالا تقتطع من رواتبهم.
-المغاربة مستعدون بكل ما تسمح الكلمة من معنى بعدم التفريط أو ترك أي جهة تمس بوحدتهم الترابية بكاملها (الصحراء المغربية وسبتة ومليلية).
-هذه المقايضة جعلت كل هذا الذي تحدثنا عنه لا قيمة له أمام الهرولة؛ فقد أصبحت خربشة ترامب التي تمثل توقيعه أسمى قدرا وأكثر أهمية في مسألة مرغ من أجلها المغرب وجهه في التراب.
المقايضة جعلت من المغرب وكأنه يبحث عن وكيل دولي، وطبعا إذا كان هذا الوكيل الدولي هو الولايات المتحدة الأمريكية، ستجعل المغرب يتحرك في الملف بمنطق القوي الثابث من خطواته؛ فالآن معه الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وكلنا يعلم مساحة تأثير هاتين الدولتين في السياسة العالمية.
فالمقايضة من الناحية الأخلاقية أساءت إلى شعور المغاربة الذين بذلوا الأرواح والأموال، وأساءت إلى شعب يعاني ويلات القتل والتشريد من طرف عدو محتل يعيث في أرض الإسراء والمعراج ظلما وفسادا؛ فشرعنة الاحتلال والتعاون معه جرم أخلاقي كبير لا علاقة للمغاربة به، وهم أصحاب باب المغاربة بالقدس الشريف.
سياسيا هي مقايضة مبنية على المناورة والمناورات السياسية دائما محفوفة بالمخاطر وبمتغيرات الواقع الدولي، خاصة أن الضمانات في السياسة العالمية مسألة غير متاحة بالإطلاق؛ فصديق اليوم قد يصبح عدو الغد وهكذا، وهذا يفيد أن المقايضة بنيت على رهانات لا يمكن لأحد أن يحسم في مآلاتها.
* هل ستجني المغرب مكاسب حقيقية من التطبيع؟ ما هي؟
على المستوى النظري وعلى مستوى ما يتم الإعلان عنه من توقيع للاتفاقيات في المجال الاقتصادي بالإضافة إلى الدعم السخي الذي قدمته الولايات المتحدة الأمريكية والذي يقدر بثلاث مليار دولار، فإن أي متتبع سيتكون عنده انطباع كامل أن هذا التطبيع سيكون له من الأثر الإيجابي ما سينعكس أثره في الحياة العامة للشعب المغربي.
لكن دعونا نفحص الأمور بمنظور آخر أو بالأحرى من خلال سؤال التجربة على أرض الواقع.
هل يستطيع أحد أن يظهر لنا المكاسب التي حققتها مصر والأردن وغيرها من الدول التي طبعت ووقعت اتفاقيات السلام والاعتراف بالكيان الصهيوني؟
فليقل لنا أحد ذلك، لا أظن أحدا سوف يزعم ذلك، وواقع الحال يعرفه الجميع، وكذلك حجم المعاناة الاقتصادية في كل أبعادها التي تعاني منه كل هذه الدول.
التجربة التاريخية والميدانية أثبتت بما لا يدع شكا أن الكيان الصهيوني يأخذ ولا يعطي، يستفيد ولا يفيد هذا واقع التاريخ والميدان، وأنا كما قلت ليحدثنا أحد من هذه الدول السابقة بالمكاسب؛ فهو الوهم المنتظر.
من الناحية السياسية قد تكون اللحظة على مستوى ملف الصحراء المغربية وبمزيد من فتح الدول لقنصلياتها في الصحراء المغربية مؤشرا على تحقيق مكسب ترسيخ واقع مغربية الصحراء؛ لأن فتح تلك القنصليات هو اعتراف عملي بالصحراء المغربية، لكن الإشكال المطروح من الزاوية الأخرى هو موقف الأمم المتحدة التي أعلنت بشكل واضح أن الاعتراف الأمريكي لا يعني حل مشكل الصحراء، وأنها سوف تعمل على تعيين مبعوث لها لمتابعة الملف.
هذا يعني أننا ما زلنا في نقطة الصفر.
* هل ستتجنب المغرب مخاطر حقيقية بالتطبيع؟ مثل ماذا؟
لا يمكن لأي بلد مطبع أن يجنب نفسه مخاطر التطبيع، التطبيع سرطان ينتشر في الجسم رويدا رويدا، متشعب الأبعاد، يخرب القيم والسلوكيات والثقافة، نحن أمام طوفان ستفتح له جميع الأبواب، يكفي أن المغرب أعلن أنه سيعمل ليكون أفضل وجهة سياحية “لإسرائيل”،
كل ما يمكن أن يقال هنا هو نسأل الله أن يحفظ البلاد والعباد.
* لو كنتم مكان سعد الدين العثماني؛ فكيف كنتم ستتصرفون في هذا الأمر؟
في البداية لا يمكن إعفاء السيد العثماني من المسؤولية الشخصية خاصة أن الرجل واحد من قيادات ومنظري الحركة الإسلامية، لكن أعتقد أن المقاربة –حقيقة- لا يمكن الدخول إليها من هذه الزاوية؛ لأن هذا الموضوع يحتاج إلى نقاش مستفيض داخل الحركة الإسلامية بشكل عام وإلى وقوف كبير مع الذات وتوزينٍ من طرف الحركة الإسلامية.
موقف السيد العثماني كشخص لا يمكن تجزئته عن موقف الحزب الكلي؛ لأنه الذي قد يغيب عنكم أو عن الكثير هو أن السيد العثماني قبل توقيعه كان قد أطلع الأمانة العامة للحزب بأن هذا الأمر وارد بنسبة قد تصل إلى مائة بالمائة، وهذا يفيد أن ما قام به الرجل يندرج ضمن موافقة الأمانة العامة.
ولذلك فالسؤال في رأيي لا يمكن أن يوضع في الزاوية الفردية أو الشخصية لأن السيد العثماني لا يعبر عن ذاته كفرد، فهو قبل أن يكون رئيسا للحكومة المغربية، يعتبر الأمين العام لحزب العدالة والتنمية.
* وماذا حدث خلال أقل من أربعة أشهر حتى يغير العثماني من رأيه في التطبيع 180 درجة؟
لم يحدث أي شيء حقيقة، وقد يكون هذا الجواب صادما، صادما لأن الذي لا يعرف طبيعة وتدبير الشأن السياسي المغربي، وكيف يتم، وما القواعد التي يبنى عليها العمل داخل دواليب الدولة، وما الشروط التي يضعها النظام لكل من يريد أن يصبح جزءا من بنية الدولة مقبولا لديها، ستبقى الصورة لديه دائما فيها الكثير من الضباب أو علامات الاستفهام كالحالة التي أمامنا الآن.
لا يمكن لحزب العدالة والتنمية وعلى رأسه السيد العثماني أو أي حزب آخر إلا أن يتماهى مع الموقف الرسمي لملك البلاد، ما دمت قبلت كشخص أو هيئة أن تشتغل من داخل بنية الدولة فليس أمامك مجال آخر.
ولذلك فالموقف القديم من التطبيع كان متماهيا مع الموقف الرسمي الذي يعتبر القضية الفلسطينية قضية وطنية، أما الموقف الجديد فهو في الوقت نفسه يتماهى مع موقف الدولة الرسمي التي قالت “إن التطبيع لا يعني التنازل عن القضية الفلسطينية بل هو خادم للقضية الفلسطينية”.
فليس هناك تغيير لا بنسبة 180 درجة ولا غيرة، قد يكون ما أقوله صادما لكن هذه هي الحقيقة التي يعلمها الجميع؛ أقصد الطيف السياسي بكامله.
* يعني هل يمكن القول بأن حزب العدالة والتنمية اضطر إلى القبول بالتطبيع كخيار وحيد (التطبيع أو الدمار)؟
ليكن واضحا وحتى لا نعيد هذا الكلام أدرك تمام الإدراك أن مساحة هذا الحوار لا يمكن أن تسمح لتحليل هذا الموضوع، والذي ربما جعله يعيش صدمة التوقيع من طرف الحزب على وثيقة التطبيع.
ما قام به حزب العدالة والتنمية هو نتاج قناعة كاملة، لم يوقع لا لأن ذلك هو الخيار الوحيد ولا خوفا من الدمار.
حزب العدالة والتنمية حسم كل خياراته منذ أول قدم في مجال السلطة.
* وكيف ترون تأثير هذا الأمر على قواعد الحزب وقياداته الوسيطة؟
طبعا هناك نوع من الغضب ونوع من الانزعاج الذي صاحب اللحظات الأولى، لكن لا ينبغي أن نذهب بعيدا في الاستنتاجات، سيبقى الحزب على وضعه كما كان.
* ما توقعاتكم لتفاعل الشارع المغربي مع هذا القرار؟
الشعب المغربي -كباقي الشعوب العربية والإسلامية- لا يمكن أن يقبل مثل هذا التطبيع مع الكيان الغاصب، وهذا الأمر ليس مجرد انطباع؛ فكثير من استطلاعات الرأي تمت في الموضوع، وكلها خرجت بأن نسبة أكثر من 90% من الشعب المغربي ضد أي تقارب أو تطبيع مع الكيان الصهيوني.
هذه قناعة تامة لدي الشعب المغربي.
ـ إذن فلماذا لم يتم التعبير عن ردود الأفعال الشعبية هذه من خلال الشارع (مظاهرات واعتصامات وما شابه)؟
مع أول إعلان عن التطبيع تفاعلت الهيئات المناهضة للتطبيع مع ذلك بالرفض الشديد من خلال كل بياناتها، ودعت مباشرة إلى وقفة مناهضة للتطبيع في العاصمة المغربية الرباط أمام البرلمان المغربي استنكارا للتطبيع ولزيارة الوفد الصهيوني للتوقيع، لكنها ووجهت بالمنع والتطويق الكامل للمكان من قبل الشرطة.
كما أن الكثير من المدن نظمت فيها وقفات منددة بالتطبيع، لكن غالبيتها ووجه بالقمع؛ فليس هناك ركود من طرف الشارع المغربي؛ بل هناك حراك مستمر مقابل تضييق كبير وكبير.
* والنخبة المغربية.. أين هي من التطبيع؟ أم لا توجد نخبة بالقوة التي تؤثر في نظام الحكم؟
الحديث عن النخبة في بعض الأحيان -وأعتذر عن هذه الكلمة- عندما أسمع هذا المصطلح فإنني أصاب بالغثيان، وأنا طبعا لا أعمم، ولا يمكن إلا أن أثني عن جزء ولو أنه قليل من هذه النخبة على مواقفها المشرفة من كل القضايا العادلة للأمة والإنسانية.
لكن أن تعول الشعوب على النخبة، أو أن نعتبر النخبة مؤثرا وفاعلا سياسيا واجتماعيا في مجريات الأحداث، هذا وهم كبير؛ لعل أحداث الربيع العربي كشفته وعرته بشكل كامل.
النخب تعيش في عالمها العاجي مقطوعة عن الجماهير للأسف، ولعل هذا سيقودنا مرة أخرى إلى دور النخب ودور المثقف في التغيير، وهذا سؤال فلسفي ليس موضوع نقاشنا؛ لذلك لا يمكن الحديث عن تأثير في أي اتجاه كان.
* وهل الاعتراف الأمريكي بالصحراء يغني عن الاعتراف الدولي؟
لا يغني الاعتراف الأمريكي عن الأعراف الدولي، وهو في الوقت نفسه ليس ملزما لباقي الدول للاعتراف بمغربية الصحراء، ولعل هذا الموقف كان واضحا من منظمة الأمم المتحدة التي اعتبرت قرار الولايات المتحدة قرارا خاصا بها.
* هل تعتقدون أن التطبيع الرسمي سيؤثر على الرفض الشعبي لهذا التطبيع؟
يعرف الجميع أن ملفا كهذا ليس بالأمر السهل؛ ولذلك فإن مسار التدافع بين القوى المناهضة للتطبيع -وهي مجرد هيئات ومنظمات وليست دولا، وفي نفس الوقت تتحرك تحت طائلة القانون المغربي- يجعلها لا تبحث عن الفوضى أو التحركات التي تثير القلاقل في البلد.
هي بعيدة عن كل هذا، وحريصة على الوطن أن يسير في أي منزلق ولن تسمح به، ولذلك فمسار التدافع السلمي والحضاري الذي يشهد به الجميع لهذه الهيئات مسار طويل لإسقاط التطبيع، وهي تدرك ذلك جيدا؛ ولذلك فإن أولى أولوياتها التي تأخذها بعين الاعتبار هو أن يبقى الموضوع مطروحا، وأن يبقى الإلحاح على مخاطره، والعمل على ألا يتم تدجين المجتمع. ولذلك فهو مسار طويل لا يمكن الحسم في نتائجه.