إنها الأم الحنون التي تنجب الرجال وترعاهم وتربيهم وتسهر على راحتهم، تجوع وتطعمهم، وتحزن وتسعدهم، وتتعب وتريحهم، وتفتديهم بروحها ونفسها.
وهي الأخت المحبة التي هي أمٌّ ثانية لإخوتها، تمارس معهم الأمومة ولو كانت تصغرهم، تحنو عليهم وترعاهم وتعطيهم حبها الأخوي الرائع.
وهي الجدة المحبوبة التي يتدلل عليه الأحفاد ويتدافعون إلى حضنها الكبير، فتنفق عليهم ما تبَقَّى في قلبها من حب الحياة في حبها لهم، كما أنها العمة والخالة وكل منهما بمثابة الأم تحمل بين شغاف قلبها الرحمة والحب والحنان.
وهي الزوجة الرفيقة التي خلقها الله تعالى للرجل تحبه وترعاه، وتقاسمه منامه وصحوه، ولا يطيب عيشه بعيداً عنها، يسكن إليها، ويُرزق أولاده منها فيستمر نسله ويمتد أثره.
كانت المرأة في الجاهلية مهينة مهضومة حقوقها حتى كانت تُدفن أحياناً حية في التراب
وهي الابنة الرقيقة التي يتعلق قلبها بحب أبيها منذ صغرها، وترى فيه مثلها وقدوتها، وحسبها وجاهها، وعزها ومنعتها.
هذه هي المرأة.. كما أنها هي التي تلد الذكور والإناث، فيشبون رجالاً ونساء بين يديها، ولا تستقيم بدونها الدنيا بأي حال!
وبالرغم من كل ذلك، فقد كانت هذه المرأة قديماً في الجاهلية -قبل الإسلام- محتقرة، مهينة، ضائعة مكانتها، مهضومة حقوقها، بل قد تُدفن حية في التراب، لا لشيء إلا لأنها أنثى! فأي ظلم تعرضت له منذ ولادتها في تلك الفترة الزمنية المظلمة؟!
أرحم الناس بالمرأة:
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أرحم الناس جميعاً بالمرأة، قبل النبوة وبعدها، وحين انبلج فجر الإسلام وظهر نوره ولاح ببعثة هذا النبي الرحيم هلت بشائر الحقوق تطل برأسها وتظهر، فقد جاء صلى الله عليه وسلم ليعيد نصاب العدل ويُرجع الحقوق إلى أصحابها؛ ليقوم الناس بالقسط، وقد قال الله تعالى له: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 7)، فكان نصيراً وناصراً للمرأة، حيث جعل لها مكانة وشأناً وحقوقاً في كل أحوالها، ونهى وحذر من استضعافها وظلمها، فقال: «إِني أُحَرِّجُ عليكم حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة» (صحيح الجامع).
فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بها وأوجب لها الحقوق، وذلك منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، ليكون لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم السَّبق في ذلك، ولتكون المرأة المسلمة أول من تُكرم من النساء هذا التكريم العظيم وتحفظ حقوقها فينزل بها القرآن الكريم وتتضمنها السُّنة النبوية، فصارت ترِث بعد أن كانت تورَث، وأصبح لها ذمتها المالية المستقلة بعد أن كانت لا أهلية لها، يقول عمر رضي الله عنه: «والله، إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمراً، حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم» (رواه مسلم).
من رحمة النبي بالفتاة أنه نهى عن منعها من الزواج وجعل النفقة عليها بعده عبادة
دعوة النبي إلى الرحمة بالمرأة:
كان النبي صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة، ومن رحمته أنه دعا إلى الرحمة بالمرأة والإحسان إليها في كل وقت إلى يوم الدين؛ فهي إن كانت أمّاً فإن لها من البر أعظمه، ومن الطاعة أتمها، ومن الرحمة ما يناسب قلبها الرحيم، فنهى عن عقوقها وقال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات» (رواه البخاري)، وقد قال رجل: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: «أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك» (رواه مسلم)، وقد أنزل عليه القرآن يوصي بالبر والإحسان بها.
وإن كانت المرأة أختاً، فقد حث على حسن صحبتها، فقال: «مَن كانت له أختان، فأحسن صُحْبتَهما ما صَحِبَتاه، دخل بهما الجنة» (رواه أحمد)، وقال: «من كان له أُختان أو ابنتانِ، فأحسن إليهما ما صحبتاهُ، كنتُ أنا وهو في الجنة كهاتين، وقرنَ بين أُصبعيه» (السلسلة الصحيحة).
أما الزوجة، فقد أوصى بها خيراً، وقال: «استوصوا بالنساء خيراً» (صحيح الجامع)، وقال: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» (رواه الترمذي)، بل وجعلها بصلاحها خير متاع الدنيا، فقال: «إنما الدنيا متاع وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة» (صحيح ابن ماجة)، وذكر أنها من السعادة فقال: «أربعٌ من السعادةِ: المرأةُ الصالحةُ..» (أخرجه ابن حبان، وصححه الألباني)، وقد أنزل عليه القرآن يأمر الأزواج بحسن العشرة لزوجاتهم.
رحمة النبي بالبنت:
أما البنت التي كانت توأد قبل الإسلام، فقد نالت من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم القسط الوافر، فكانت بعثته رحمة لكل البنات، وقد رزقه الله تعالى أربع بنات ربّاهن ورحمهن وأحسن إليهن، وكلهن ولدن قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، فنهى عن وأد البنات وقال: «إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات..» (رواه البخاري)، وقال: «مَن كانت له أُنثَى فلم يَئِدْها ولم يُهِنْها ولم يُؤثِرْ ولَدَهُ عليها -قال: يعني الذُّكورَ- أدخَلهُ اللهُ الجَنَّةَ» (رواه أبو داود).
ومن رحمته بهن أنه ساق من البشارات العظيمة للوالدين، وحث على نيل هذه البشريات بالإحسان إلى البنت وإكرامها وعدم ظلمها، وقال: «مَن كان له ثلاثُ بناتٍ يُؤدِّبُهنَّ ويرحَمُهنَّ ويكفُلُهنَّ وجَبَت له الجنَّةُ ألبتةَ»، قيل: يا رسولَ اللهِ، فإن كانتا اثنتينِ؟ قال: «وإن كانتا اثنتينِ»، فرأى بعضُ القومِ أن لو قال واحدةً لقال واحدةً (أخرجه البخاري في الأدب المفرد).
ومن رحمته بها أنه حث على إخراجها من ظلام الجهل، فدعا إلى تعليمها، وقال: «من كانت له بنت فأدبها فأحسن أدبها وعلَّمها فأحسن تعليمها وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه كانت له ستراً أو حجاباً من النار» (أخرجه أبو نعيم)، ولا عجب في توصيته بالبنت، فهي التي ستكون بعد وقت هي الأم والأخت والمرأة بصفة عامة.
الاقتداء بالنبي يتطلب أن نؤتي المرأة حقوقها ولا نحرمها ميراثها ونكرمها
من مظاهر رحمة النبي بالمرأة:
– ومن رحمته بالمرأة النهي عن قتلها في الحروب، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشاً قال: «انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة..» (رواه أبو داود).
– رحمته بالأم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه ببكائه» (صحيح الجامع).
– ومن رحمته بها المواساة لها وتبشيرها حيث قال: «أيما امرأة منكن قدمت ثلاثاً من ولدها، كانوا لها حجاباً من النار، قالت امرأة: يا رسول الله، أنا قدمت اثنين، قال: واثنين» (رواه أحمد).
– ومن رحمته بها تعليمها: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن. (رواه البخاري).
– ومن رحمته بها أنه نهى عن منعها من الزواج، ونهى عن تزويجها بغير إذنها، فقال: «لا تُنكح الأيِّم حتى تُستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن»، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: «أن تسكت» (رواه البخاري).
– ومن رحمته بالمرأة أنه دعا إلى الوفاء بما اشترطته على زوجها، فقال: «إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللْتُم به الفروج» (صحيح النسائي).
ومن رحمته بها أنه جعل النفقة عليها عبادة فقال: «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك» (رواه البخاري).
– ومن رحمته أنه جعل السعي على الأرملة عبادة فقال: «الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار» (رواه البخاري).
هكذا كانت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالمرأة، وهكذا يريد أن تكون المرأة في كل وقت، فأين هذا مما ذكرته الأمم المتحدة في اليوم الدولي للأرامل؟! حيث تذكر أنه توجد في العالم 258 مليون أرملة، تعيش عشرهن في ربقة فقر مدقع، وفي بعض البلدان يتنكر الأقارب لآلاف الأرامل فيصبحن بلا مأوى، مما يجبر كثيراً منهن على البحث عن عمل غير نظامي كخادمات بيوت أو اللجوء إلى التسول أو البغاء، وقد تصبح الأرامل مسؤولات عن ديون الزوج المتوفى.
الرحمة المهداة:
لقد قدم لنا النبي صلى الله عليه وسلم أجمل الصور التي تتجلى فيها رحمته بالمرأة، ولنا فيه القدوة والمثل، فالاقتداء به يتطلب منا أن نؤتيها حقوقها ولا نحرمها ميراثها، وأن نكرمها فلا نهينها بأي شكل من أشكال الإهانة.
فمن الرحمة حسن معاملة المرأة أماً وأختاً وابنة وزوجة، فنرعاها ونوفر لها الأمن ونعمل للحفاظ على صحتها وعفتها وكرامتها ومشاعرها، وإخراجها من ظلمة الجهل إلى نور العلم والإيمان، وأن نغمرها بفيض الرحمة قولاً وعملاً وسلوكاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن» (رواه الترمذي).