روى فايز الكندري، الأسير الكويتي المحرر من سجن جوانتانامو، في كتابه شديد الروعة «البلاء الشديد والميلاد الجديد»، أن أحد الجنود الأمريكيين في معسكر قندهار بدا أنه مثقف وذو أدب، حاول التعرف على الإسلام، فكان يستمع باهتمام بالغ إلى شرح أفكاره، ويتعامل باحترام كبير مع الأسرى، حتى إنه إذا أراد أن ينصرف ليستكمل جولته استأذن من الأسير في الانصراف! ولما رأى الرقيبُ العسكري هذا الجنديَّ واقفاً مع الأسرى، استدعاه إليه، ووبَّخه على ذلك، وهدده بالعقاب إذا رآه مرة أخرى في هذا الموقف.
انقلب الجندي بعدها إلى وحش، صار ناراً على الأسرى، أو بتعبير الكندري «رضي أن يكون آلة في هذه المنظومة الظالمة التي لا تراعي أبسط الحقوق الإنسانية، فألغى عقله في معرفة الحق والباطل والظلم والعدل، وألغى قلبه الذي يطالبه بأن يكون إنساناً يُعامل الآخرين بإنسانية»(1).
أتّخذُ هذه القصة مدخلاً للإجابة عن بعض استدراكات القراء التي وصلتني على المقال الماضي (كيف تتشكل صورة المسلمين في فرنسا؟)؛ إذ قُلْتُ بأن الشعوب الغربية ضحية للخطاب الإعلامي الكاذب عن المسلمين الذي تنتجه شبكات السلطة والنفوذ الغربية –كما عرضنا ذلك من خلال تجربة المستشرق الفرنسي المعاصر “فرنسوا بورجا”(2)– إلا أنه حتى إذا أتيح لبعضهم معرفة الحق فلن تكون مجرد المعرفة كافية لانتقاله من معسكر الغالبين إلى معسكر المغلوبين مُضَحِّياً في ذلك بامتيازاته وترفه ومتحملاً تكاليف معاكسة التيار.
مقاطعة المنتجات الفرنسية هي الوسيلة التي يمكن أن تكون مؤلمة للتنبيه لخطورة النَّيْل من نبينا
ولهذا، فإن حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية هي أقل ما يفعله المسلمون لاستعادة كرامتهم، إذ تلك هي الوسيلة التي يمكن أن تكون مؤلمة ومفيدة في تنبيه هؤلاء إلى خطورة النَّيْل من نبينا صلى الله عليه وسلم، وبها يضع المسلمون أنفسهم ضمن شبكة القوى وشبكة المصالح التي تؤثر على اختيارات هذه الشعوب.
لكن يبرز السؤال هنا: لماذا تكون معرفة الحق غير كافية وحدها لاتباعه عند أغلب الناس؟ ولماذا يرضى أغلب الناس بمخالفة الحق –بل ومحاربته- في سبيل منفعتهم الذاتية؟!
ذلك واحدٌ من الأسئلة التي كم هلكت فيها العقول وفاضت الكتب في محاولة الإجابة عنها، ولن يمكن أن نقدم الإجابة ولا أن نختصر ما قيل في هذا المقال، وإنما نهدف من هذه السطور القادمة إلى بيان أن الشعوب الغربية تهيمن عليها مناهج فكرية ونظم سياسية وُلِدت في مسارات تاريخية بعينها، تجعل من المستبعد أن يتغير موقف هذه الشعوب مهما اجتهدنا في إيصال الصورة الصحيحة لديننا ونبينا إليهم.
علم نفس الطاعة
من بين الفروع التي يدرسها علم النفس السياسي، فرع عن علم نفس الطاعة، وتبرز في هذا الفرع تجارب «ستانلي مليجرام» الشهيرة التي توصلت إلى أن 65% ينفذون ما يُطلب منهم فعله مهما كان هذا الطلب يؤذي الآخرين أو حتى يقتلهم.
تتضاعف نسبة الطاعة في حالات أخرى، من أهمها حين يكون الذي يُصدر الأمر جهة فوقية، فالاعتقاد في أن الذي يطلب أو يأمر أوسع علماً أو أكثر مالاً أو أرفع شأناً يجعل الطاعة تزداد، وأما إذا كان الآمر يمثل السلطة التي تملك الجزاء والعقاب، فنسبة الطاعة تزداد إلى حدودها القصوى، ولا يبقى إلا النادر الذي يفكر في التمرد أو يقوى على تنفيذه.
وأسفرت التجارب أن الإنسان وهو يقوم بهذا العمل غير الإنساني يُنْتِج مبرراته لنفسه، وهذه النقطة الخطيرة أشار إليها رئيس سابق لجهاز الاستخبارات الأمريكية –كما أورد ذلك «ستيفن جراي» في كتاب «أسياد الجاسوسية الجدد»- في درسه للمتدربين على قيادة شبكات التجسس، فقد أخبرهم أنه ليس من المُجْدي كثيراً بحث المداخل والدوافع لتجنيد العميل، بل يجب إيقاعه في الخيانة فعلاً، ثم سيتولى هو بنفسه إيجاد المبرر لنفسه.
نسبة نادرة يمكن أن تقاوم الحالة الاجتماعية السائدة خاصة بمجتمعات تهيمن عليها العلمانية والإلحاد
كذلك تتضاعف نسبة الطاعة حين تكون المسافة بعيدة، فالذي يمارس القصف بالطائرة أو بالصاروخ لا يشاهد نتيجة عمله على الضحية، ومن ثَمَّ فلا يفكر في الرفض أو التمرد، بينما تزيد احتمالية التمرد لو أنه سيقتل بالسكِّين، وتكمن الفائدة العملية من هذه النتيجة في أن تقسيم الجريمة إلى مجموعة من الأعمال تجعلها أسهل عليهم جميعاً، فالذي يأمر بقصف المدنيين –مثلاً- لن يتألم لأنه لا يفعل أكثر من كتابة قرار، والذي يوصل القرار إلى الهيئة التنفيذية لن يشعر بأي ألم جراء مشاركته في هذه المذبحة، ومثله الذي يرتب خطة القصف، وكذلك الذي يشحن الطائرة بالصواريخ، وكذلك الطيار الذي يلقي القنبلة، وبطبيعة الحال لن يشعر بالألم كل الفريق العلمي والصناعي الذي أنتج القنبلة.
وتتضاعف نسبة الطاعة أيضاً حين تكون الضحية قد جرى تشويهها أو نزع الإنسانية عنها، مثلما يحدث في السجون –مثلاً- من إلغاء اسم السجين واستبدال رقمٍ به، أو الحديث المتكرر عن غبائه أو عن خبثه وخطورته.. إلخ! إن هذا يجعل عملية الإيذاء مبررة، بل وضرورية، إن لم تكن شيئاً مطلوباً ومرغوباً فيه لتخليص البشرية أو الوطن من عنصر الشرّ هذا أو على الأقل: لتجنب خطورته وخبثه!
ثلاثية التأثير
إذا جمعنا بين هذه الأمور الثلاثة: تأثير الجهة الفوقية والسلطة، وتأثير تقسيم العمل إلى أجزاء صغيرة، والتشويه المتكرر للعدو، وطبقناها على حالتنا هذه، فسنجد أنه من الصعوبة جداً أن يتغير موقف الشعوب الغربية من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المسلمين؛ فنحن إزاء شبكة سلطوية قوية مُنْتِجة لصورة المسلمين في الغرب، تتمثل في نخبة متميزة من السياسيين والوزراء والمثقفين والأكاديميين والصحفيين وحتى الممثلين، والكلمة من هؤلاء تجد طريقها بغير صعوبة إلى عقول عموم الناس هناك وقلوبهم، فليس من طبائع البشر أن يناقضوا قولاً يتفق عليه ويردده زعماؤهم وأعيانهم وكبارُهم.
ثم إنه ليس مطلوباً من عموم الناس هناك ارتكاب جرائم مباشرة ضد المسلمين، بل على العكس، ليس مطلوباً إلا الإبلاغ عمن يعتقدون أنه يمثل خطورة وتطرفاً، مع تقديم الدعم الاجتماعي لإجراءات الحكومة، وهو ما يكفي فيه مجرد السكوت والوقوف في مكان المتفرج الذي لن يرتكب شيئاً بيده، أما الأجهزة الحكومية التي ستنفذ قرارات السلطة، فإن العمل مقسَّم فيما بينها بحيث لن يشعر أحدٌّ ما بنوع من ألم الضمير، لأنه مجرد منفذ لجزء صغير من سياسات كبرى هو لا يستوعبها ولا يعرف نتائجها على الضحية.
وحتى إذا شعر البعض بتأنيب الضمير، فإن الميراث الطويل من خطاب الكراهية الذي يتحدث عن الخطر الإسلامي صنع فعلاً حالة من الخوف المرضي من الإسلام (الإسلاموفوبيا)، وهذا الأمر يعمل كمُخَدِّرٍ ومُنَوِّمٍ للمشاعر المتعاطفة مع الضحايا، كما يعمل كحافز ومثير للمشاعر المتضامنة مع الدولة والسلطة والأجهزة التي تنفذ واجبها في حماية المجتمع من الأخطار المحتملة!
وإذا افترضنا أن مواطناً صالحاً في فرنسا أو في غيرها من بلاد أوروبا كان يكتفي بموقع المتفرج، أو حتى تسيطر عليه عاطفة التضامن مع الضحايا، فإن هذا المواطن بمجرد أن يتولى وظيفة في الشرطة أو الجيش أو نحوها من الأجهزة التي تتولى هذه الحرب ضد المسلمين؛ الأغلب أن هذا المواطن يتحول تحولاً مفاجئاً إلى جندي مخلص في هذه الحرب، على ذات النحو الذي فعله الجندي الأمريكي الذي ذكرناه في بداية المقال.
فتلك هي نتيجة التجارب النفسية العديدة التي أجراها العديد من خبراء علم النفس الاجتماعي، وتناولها كثيرون مثل «سولومون آش»، و»ستانلي مليجرام»، و»فيليب زمباردو»، و»ديفيد باتريك هوتون»، و»باتريك بوكانان»، و»حنة أرندت»، و»زيجمونت باومان».. وغيرهم(3).
إن نسبة نادرة يمكنها أن تقاوم الحالة الاجتماعية السائدة، لا سيما في مجتمعات تهيمن عليها العلمانية والإلحاد، وتضمر فيها الهيمنة الأخلاقية، بحيث يمكن لأي عمل مهما كان وضيعاً أن يوجد له المبرر الذي يجعله ضرورة أو حتى يجعله مرغوباً فيه، وأندر منها نسبة الذين يقاومون السلطة أو يتمردون عليها، وهذا أمرٌ نلمحه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن لهم عريفاً ولا شرطياً ولا جابياً ولا خازناً”(4)، فمما نتبينه من هذا الحديث أن مقاومة عنصر الجهاز الأمني أو العسكري أو المالي لأوامر السلطة الظالمة أمرٌ لا يكاد يُستطاع، فجاء النهي النبوي عن الدخول فيه من الأصل.
كان هذا كله عاملاً واحداً، وهو “علم نفس الطاعة” الذي يحمل الشعوب على أن تظل في مواقعها العدائية حتى وإن وصلت إليهم الصورة الصحيحة عن النبي وعن المسلمين، مع أن هذا افتراضٌ جدلي على سبيل التنزل، إذ كيف يمكن منافسة الشبكة السلطوية المهيمنة على شعب ما فضلاً عن التغلب عليها لإعادة تشكيل وعي الشعب؟!
________________________________________________________________
(1) فايز الكندري، البلاء الشديد والميلاد الجديد، ط1 (بيروت: جسور للنشر والترجمة، 2020م)، ص109، 110.
(2) محمد إلهامي، «كيف تتشكل صورة المسلمين في الغرب: خبرة مستشرق فرنسي»، مجلة المجتمع الكويتية، ديسمبر 2020م.
(3) للمزيد، انظر: «الإذعان للسلطة» (Obedience to Authority) لستانلي مليجرام.
(4) رواه ابن حبان (4586) وغيره، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (360).