نتناول في هذه الحلقة، النص الحضاري للمفكر الفرنسي المسلم روجيه جارودي[1] تحت عنوان “الإسلام دين وأمة”، والذي يوضح فيه نماذجية مفهوم الأمة كما في مجتمع “المدينة”، ودرس المقارنة مع المدنية المعاصرة أي الحضاري الغربية، في جوانبها السياسية والاقتصادية تحديدًا.
تعليق على النص:
يهدف النص إلى تحقيق الوعي بالتباين الشديد بين تصورات الإسلام المجسدة في مجتمع “المدينة” باعتباره المجتمع النموذجي أو الأصلي، وبين مجتمع المدنية المعاصرة “الحضارة الغربية”، وبيان البون بين رؤية الإنسان في المجتمعين، أو بالأحرى في النموذجين الفكريين، فالنموذج الإسلامي الذي جسده مجتمع الصحابة في المدينة، خط البيان القرآني في واقع متحرك سواء ما يتعلق بالمجال السياسي أو المجال الاقتصادي، وهما أكثر ما يتعلق بحركة الإنسان ونشاطه الكوني، فبينما هيمن مبدأ “الغائية” على نموذج “المدينة”، حل مبدأ “الوضعية” في الحضارة الغربية المعاصرة التي افتقدت بُعد السماء، وافتقدت معها الغاية “إليه المصير” وتاهت في ماديتها وعنصريتها وحروبها في ظل هذا الغياب، كما تمحور هذا الوجود للغائية في المجال السياسي في مبدأ “الشورى” الذي حطم أصنام هيمنة الفرد على الحكم، وجعل الشورى والاختيار للأمة أساسيًا في مجال الحكم والحكومة، واعتبرها كذلك صاحبة الحق في عزل الحاكم، كما تحور بُعد الغائية والإيمان في النموذج الإسلامي في بعد “النفع” في المجال الاقتصادي، واعتبار كل ما يقدم لنفع الناس يقع في مجال العبادة، وكل ما يضرهم يقع في مجال المحرمات، وهذا على خلاف ما تقدمه النماذج الوضعية المعاصرة التي تتيح حرية الامتلاك المطلق وحرية التصرف المطلق سواء بالنفع أو الضرر، وتتراوح النماذج الوضعية في ميدان الملكية بين تأليه الفرد (كما في الرأسمالية) أو تأليه الحزب والجماعة (كما في الشيوعية والماركسية).
كما أطلق جارودي على الإسلام أنه “دين وأمة”، لكن “الأمة” التي قدمها الإسلام هنا بمعناها الإنساني الإيماني وليس بمعناها الديني الإيديولوجي- العنصري- كما في أوروبا في العصور القروسطية، فالأمة في الإسلام جامعة غير مانعة للأجناس والألوان والأعراق وكل من ينتمي إليها ويدخل تحت ظلالها للعيش والعمران.
النص[2]
الإسلام دين وأمة
إن الإسلام دين وأمة في نفس الوقت. أمة مؤسسة على الإيمان، وليست مثل كل الأمم على أساس ديني، ولكنها أمة بمعنى نوعي مميز، فهي أمة ليست فقط دينية: فالإيمان فيها يتناول جميع مناحي الحياة، ليس فقط على المستوى الفردي، ولكن أيضًا على المستوى الاجتماعي والسياسي.
وكان النموذج الأصلي لهذا النوع من الأمة الذي أسسه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أمة من طراز جديد، فليست هي الأمة القائمة على روابط الدم عند البدو أو روابط الأرض عند الحضر، وهي ليست أمة بالمفهوم الغربي للفظ، ذلك المفهوم القائم على وحدة الأرض والسوق واللغة والموروث الثقافي، أي المعطيات المادية مثل معطيات الجنس والجغرافيا والتاريخ، ولكنها أمة نبوية قائمة على تجربة مشتركة من السمو للوصول إلى الله عز وجل.
وعندما أعلن النبي محمد – صلى الله عليه وآله وسلم- أنه لا إله إلا الله، فقد محى كل أشكال الوثنية وجعل القوة والثروة مسألة نسبية: فكل القوة وكل الغنى لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، وأي فرد يمتلك جزءًا من القوة أو الثروة ليس إلا مستخلفًا مسؤولًا عن ذلك. ومن هذا الإيمان الأول ولدت التصرفات والمؤسسات كما تنبت أغصان الشجرة وثمارها من الجذور.
والتأمل في مجتمع المدينة يسمح لنا باستخلاص القاسم المشترك بين كل المجتمعات الإسلامية التي كانت كلها تريد بكل ما تستطيع أن تكون مخلصة لتعاليم النبي محمد – صلى الله عليه وآله وسلم-. [ومن هذه التأملات]:
- ما يتعلق بالسلطة السياسية بشقيها الرئيسين: ما يتعلق منها بسلطة الله التي تصير معها كل سيادة اجتماعية نسبية، والشق المتعلق بالشورى، والذي يلغي أي واسطة [بين الناس] وبين الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وبذلك يستبعد تمامًا الطغيان الفردي الذي يقدس السلطة ويدعي أنه من يمتلك السلطة إله على الأرض، ويستبعد الديمقراطية من الطراز الغربي بمعنى الشخصية العددية والاحصائية المفوضة، والتي لها مطلق التصرف، فالحرية ليست إلغاء للفردية ولا فردية مطلقة، ولكنها تنفيذ لإرادة الله.
وكل شكل من أشكال الحكومات [المطلقة] إنما هو تضليل، سواءً في شكل الملكية الفردية، التي تقيم نفسها مكان الله على الأرض، أو في شكل جهاز حكومي يستلزم برلمانًا أو أحزابًا وهيئات وطوائف قبلية أو دينية. أو في شكل استفتاء يجاب عليه بنعم أو لا.
فلو كان مصدر القانون إلهيا بحتًا، ولم يكن له أي واسطة تنظم العلاقة بين الله والناس، فإن الشورى التي كانت بالمدينة لا يمكن أن تنتج اليوم إلا “ديمقراطية مباشرة” أي: مجتمع لا يقرر فيه كل الناس كل شيء في كل وقت، ولكن تحل كل مشكلة في محيطها فقط.
- وفيما يتعلق بالملكية، فإذا كانت كل ملكية خالصة لله تعالى، فكل إنسان يمتلك شيئًا بجهده لا يمتلك منه إلا حق الانتفاع، والمفهوم القرآني للملكية يتعارض تمامًا مع المفهوم الغربي البرجوازي، فالقانون الروماني يعرف الملكية بأنه حق “الانتفاع والتبديد”، وذلك يوجب للمالك أو واضع اليد سلطة مطلقة على ما تحت يده، ويعطيه الحق في اتناء الثروة بلا حدود وفي تبديدها حتى لو كان بفعله هذا يحرم بني وطنه من الانتفاع بحاجتهم الضرورية. وهذا هو مبدأ الدولة في المجتمعات الرأسمالية. والمفهوم السوفيتي [أي الماركسي الشيوعي] بتحويله هذه السلطة إلى الدولة المطلقة إلى الدولة أي جهاز الحزب الحاكم لم يغير جذريًا نموذج الاكتناز والازدياد في النظام الرأسمالي، إنه لم يغر حتى نظام احتكار الثروات من قبل أقليات أخرى متميزة.
أما في الشريعة الإسلامية فالملكية ليست وقفًا على فرد أو مجموعة، بل هي بالعكس مهمة اجتماعية موجهة حسب المقتضيات الإلهية “لاستباق الخيرات” والملكية لا تعطي صاحبها إلا حقوقًا تسبقها واجبات، إذا فهي تفويض من الله للإنسان.
وهكذا أمكن تصور وجود نظام إسلامي متميز اقتصاديًا وسياسيًا أصليًا يرفض الفردية الرأسمالية القائمة على شريعة الغاب، وينكر من ناحية أخرى الشمولية الشيوعية.
الإسلام اليوم
… ولو أن إسلامًا اليوم “منفتحًا” لم يتجمد في ماضيه لاستطاع أن يحل مشاكل عصره بروح أمة “المدينة” متذكرًا – حسب تعبير “جوريس”- أن يظل مؤمنًا بأن ينقل من نار السلف الصالح ليس الرماد ولكن اللهب، مثلما يصب النهر في البحر، وهو ما يزال مؤمنًا بمنبعه، وهكذا يمكن الانفتاح، ليس فقط بالنسبة للمسلمين، ولكن بطريقة عالمية، فمفهوم الأمة لا يجب أن يقف عاجزًا بسبب “العلموية الوضعية” والفردية الغربية، ولكن يجب أن يخصب بالفضائل الأساسية لمجتمع المدينة، وهي الشمول والسمو. هذا الشكل الحقيقي والكامل للأمة والذي يعم وجود الله وتصرفه كل فعل فيه من أفعال الحياة الشخصية والسياسية للإنسان، وهذه الأمة التي ليس فيها تجريد في تكوينها وفي البعد السامي للإنسان. وحيث أن كل إنسان له مشاعر خاصة يحس بها بأنه شخصيًا مسؤول عن مستقبل الآخرين.
وهذه الأمة تحمل في نفسها الوعد بالتغلب على المرضين اللذين يمكن أن يقودا الحضارة الغربية إلى الدمار وهما “الوضعية” التي تقود إلى اليأس بسبب غياب الهدف [الغائية]، لأنه عند تجريد البعد السماوي للإنسان حولت الوضعية العلم إلى العلموية، والتقنية إلى السطلة التقنية، والسياسة إلى الميكافيلية، و[المرض الثاني] “الفردية” التي تقود إلى صراع الكل ضد الكل، وإلى “توازنات الخوف”.
رهان الإسلام
إن واجبنا الأول هو أن نوقظ الإسلام في نفوس المسلمين، حتى يستعيد فعاليته كأول عهده، ونكرر أنه في العالم المعاصر لا يزال هذا الإيمان هو الوحيد القادر على تحريك الناس، وليس هذا الأمل فقط من أجل أن يستعيد المسلمون دورهم كعنصر “فعال” في التاريخ، وليس كعضو خامل ومهين كما كان في عصر الاستعمار، ولكن هذا الأمل أيضًا من أجل حضارتنا[3] التي تتنازعها الوضعية والفردية، وبذلك أصبحت غير قادرة على طرح السؤال “لماذا” لم نجعل للحياة والموت والتاريخ معنى، وقد وقعت هذه الحضارة في براثن الزيادة من أجل الزيادة، والقوة من أجل القوة مما قادها إلى تدمير نفسها، يجب أن يكون عندنا هذا الأمل من أجل بقاء العالم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] كاتب فرنسي اعتنق الإسلام عام 1982، وكان قبل إسلامية منتميًا لحزب الشيوعي الفرنسي، من كتاباته: وعود الإسلام، لماذا أسلمت نصف قرن من البحث عن الحقيقة، أمريكا طليعة الانحطاط، الإسلام في الغرب: قرطبة عاصمة العالم والفكر.
[2] هذا النص مأخوذ من: روجيه جارودي: الإسلام والقرن الواحد والعشرون شروط نهضة المسلمين، القاهرة، دار الجليل للكتب والنشر، ص 20-25.
[3] يقصد بها الحضارة الغربية التي نشأ وعاش فيها.