انتشرت، خلال الأسبوع الماضي، أخبار تفيد بإمكانية فتح صفحة جديدة في العلاقات بين تركيا و”إسرائيل”، وهو ما أثار نقاشات عديدة، وتتعلق هذه الأخبار بانضمام تركيا إلى ركب الدول المطبعة مع “إسرائيل”.
لا شك أن تداول مثل هذه الأخبار سوف يكون محبطاً بالنسبة للفلسطينيين والشعوب العربية؛ لكنها في الوقت نفسه سوف تشعر الدول التي انخرطت في سباق التطبيع بالارتياح، لا سيما أن الموقف المبدئي الذي لطالما تبنته تركيا تجاه هذه الدول المطبعة كان دائماً يجعلها تشعر بالحرج.
لكن المسألة ليست بهذه البساطة، إن السبب الأصلي لظهور هذه الأخبار كان خبراً منسوباً لي بشكل خاطئ، يفيد هذا الادعاء الذي انتشر في الإعلام العربي بأننا نبحث عن فرصة للتقارب مع “إسرائيل”، وإذا خطت “إسرائيل” خطوة نحونا سنخطو خطوتين، علمت بأمر هذه الأخبار عندما تلقيت العديد من الرسائل، التي تسألني عن مدى صحتها؛ لكن الحقيقة أنني لم -ولن- أدلِ أبداً بمثل هذا التصريح؛ لكن إذا كان هذا هو الحال، كيف يمكن لتصريح لم يصدر عني أبداً أن ينتشر بهذا الشكل؟
بعد القليل من البحث، فهمت حقيقة الموضوع: كان مسعود حقي جاشين، مستشار الرئيس التركي للشؤون الخارجية، هو من أدلى بتصريح مماثل؛ لكن ما قاله لا يعكس سوى رأيه الشخصي، ولا يمثل الموقف الحالي للحكومة أو الرئاسة التركية، وفي الواقع، لم تبذل تركيا أي جهود لتحقيق مثل هذا التقارب بين الطرفين.
لا يمكن اعتبار هذا التصريح دليلاً على حدوث تطور جديد في العلاقات مع “إسرائيل”، وأكثر ما يؤكد ذلك التصريح المقتضب للرئيس أردوغان، الذي وصف فيه الوضع الحالي قائلاً: “إن علاقاتنا مع “إسرائيل” على مستوى التعاون الاستخباراتي لم تنقطع؛ لكنها تواجه صعوبات بسبب الأشخاص الموجودين في هرم السلطة الإسرائيلية، وهذا يعني أن أسباب تدهور هذه العلاقات -بكل وضوح- هو إصرار “إسرائيل” على اتباع سياسة الاحتلال، وارتكاب المجازر، واستمرار الحصار والمشاريع الاستيطانية، التي تتجاهل الفلسطينيين والمسلمين بشكل عام، إن موقف تركيا من هذه القضية واضح؛ لا يمكننا قبول أسلوب “إسرائيل” في التعامل مع الأراضي الفلسطينية، هذه هي النقطة التي نختلف فيها مع “إسرائيل”؛ مقاربتنا وفهمنا للعدالة واحترام وحدة أراضي الدول”.
وفق هذه التصريحات، من الواضح أن ما قيل مؤخراً بشأن علاقة تركيا مع “إسرائيل” بعيد جداً عن التطبيع، أما فيما يتعلق بالشروط المطروحة لتجاوز بعض العقبات في العلاقة الحالية بين البلدين، فهي مذكورة بوضوح: يجب أن تلتزم “إسرائيل” بالفهم التركي لمسألة العدالة واحترام حق الفلسطينيين في السيادة على أراضيهم. وربما بالنظر لطبيعة “إسرائيل”، فإن هذا يعني أن تركيا تطلب شيئاً مستحيلاً؛ لأن الجميع يعلمون أن هذه الدولة لا تغير أبداً أجنداتها السرية حول هذا الملف.
يجب التذكير بأن العلاقات بين تركيا و”إسرائيل” كانت مبنية على الاعتراف المتبادل منذ البداية، وهي مختلفة عن علاقاتها بالدول العربية، اعترفت أنقرة بـ”إسرائيل” منذ إعلان دولتها، وكان هناك تبادل للبعثات الدبلوماسية بين الطرفين، ومؤخراً، أفسدت تركيا علاقتها مع “إسرائيل”، ووضعت نفسها في الواجهة، رداً على السياسات الظالمة التي تمارس في حق الفلسطينيين، لهذا السبب، من الخاطئ اعتبار أنقرة جزءاً من مسار التطبيع مع “تل أبيب”.
عند قيام دولة “إسرائيل” كانت تركيا أول بلد ذي غالبية إسلامية يعترف بها، وكانت العلاقات الطبيعية بين البلدين هي المعيار؛ لكن مكانة الفلسطينيين بالنسبة لتركيا كانت دائماً أهم من هذا التقارب، وهنا يكمن الفرق الجوهري، في المقابل، تطبع الدول العربية مع “إسرائيل” وتقدم لها الخدمات تحت الطاولة، بينما خطابها الرسمي برمته يعكس عداء تجاه هذه الدولة؛ لذلك كانت الخطوات الأخيرة للتطبيع متوقعة ومنطقية، بعبارة أخرى: إن هذه البلدان التي بنت علاقاتها على أساس خدمة مصالح “إسرائيل” في الخفاء، تعمل الآن على كشف علاقات قائمة منذ زمن، وليست تتخذ خطوات جديدة.
كانت تركيا منذ البداية واضحة في علاقاتها مع “إسرائيل”، ومعروف عنها أنها كانت أول بلد إسلامي يعترف بوجودها؛ لكن هذا لا يعني أنها كانت راضية عن سياسات “إسرائيل” أو سكتت عن الانتهاكات، وحتى خلال الفترات التي كانت فيها العلاقات جيدة نسبياً، فإن ذلك كان في صالح تركيا والشعب الفلسطيني، وفي كل الأحوال، مهما كان مستوى هذه العلاقات، فإن تركيا تعتبر التنازل عن القدس والقضية الفلسطينية خطاً أحمر لن تتجاوزه أبداً.
____________________________________
(*) مستشار الرئيس التركي، والمقال نقلاً عن “الجزيرة.نت”.