إثر اقتحام مقر الكونغرس الأمريكي من طرف أنصار الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترمب، سارعت قيادات سياسية أوروبية بالتنديد بهذا الزحف على أعلى مركز سيادي في أكبر بلد حليف في المنظومة الغربية، وعبرت عن صدمتها أمام استهداف رمز الديمقراطية الأمريكية، ولكن ما وراء موجة التنديدات؟
صدمة قوية
لقد كانت الصدمة قوية بقدر رمزية مكانها وزمانها، فقد حصل الاقتحام أثناء انعقاد جلسة للكونغرس للتصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية وتأكيد اسم الرئيس الفائز ونائبه، بشكل صدم الجميع من حيث حجمه وأسلوبه.
ومن بين ردود الفعل التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية تصريحات لقيادات سياسية في أوروبا الغربية.
فقد عبرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن حزنها وغضبها، ووجهت إصبع الاتهام فيما حدث إلى الرئيس المنتهية ولايته، كما ندد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بما وصفه “مشاهد مخزية”، مشدداً على ضرورة أن يكون هناك انتقال سلمي ومنظم للسلطة في الولايات المتحدة، وقال وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب، على “تويتر”: الولايات المتحدة تفخر عن حقّ بديمقراطياتها، ولا يمكن أن يكون هناك مبرر لهذه المحاولات العنيفة لإحباط الانتقال القانوني والسليم للسلطة.
ووصف رئيس وزراء السويد السابق كارل بيلت ما جرى بأنه تمرد، وغرّد رئيس الوزراء الإيرلندي مايكل مارتن قائلاً: الشعب الإيرلندي تربطه علاقة عميقة بالولايات المتحدة توطّدت على مدى أجيال عديدة، وأنا أعلم أن الكثيرين مثلي يتابعون المشاهد التي تتوالى في واشنطن بقلق وفزع كبيرين.
ولعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أكثر الرؤساء تنديداً بما حصل في مقر الكونغرس الأمريكي، حيث قال: إن الديمقراطية الأمريكية تعد من أعرق الديمقراطيات في العالم، وإن ما قام به مناصرو ترمب يسيء بالفكر الديمقراطي العالمي، إن ما جرى أمس لا يعكس الوجه الحقيقي للولايات المتحدة.
وأكد ماكرون وقوف بلاده دائماً بجانب استقلالية الشعب الأمريكي، وأن باريس ترى واشنطن رمزاً للديمقراطية، وتابع قائلاً: الولايات المتحدة وقفت إلى جانب فرنسا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، واليوم باريس تقف إلى جانب الشعب الأمريكي الذي اختار بحرية إدارة البلاد، وأضاف الرئيس الفرنسي: عندما يقوم مؤيدو الرئيس المنتهية ولايته في واحدة من أقدم الديمقراطيات في العالم بالتشكيك في النتائج المشروعة للانتخابات بقوة السلاح، فهذا يعني تقويض الفكرة الكونية التي تقوم على أنه لكل إنسان صوت يمثله، وكان وزير خارجيته جان إيف لودريان وصف اقتحام أنصار ترمب مبنى الكابيتول بأنه مساس خطير بالديمقراطية.
موجة من التنديدات
ولم تقف التنديدات عند القيادات السياسية، وإنما تجاوزتها إلى رؤساء مؤسسات كبرى سياسية وعسكرية وأممية، حيث صرحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين: إن جو بايدن هو من فاز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، مشددة على تسليم السلطة بشكل سلمي.
من جهته، قال وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل: إنّ ما حصل في الكابيتول اعتداء على الديمقراطية الأمريكية، وكتب على “تويتر”: في نظر العالم، تبدو الديمقراطية الأمريكية الليلة تحت حصار، وأضاف: هذا هجوم غير مسبوق على الديمقراطية الأمريكية ومؤسساتها وعلى سيادة القانون، هذه ليست أمريكا، يجب احترام نتائج انتخابات الثالث من نوفمبر بالكامل.
كما عبر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ عن صدمته مما جرى، مشدداً على ضرورة احترام نتيجة الانتخابات الأمريكية، كما حث الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس القادة السياسيين في واشنطن على احترام العملية الديمقراطية وسيادة القانون.
وخارج أوروبا، أعرب رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو عن قلقه العميق إزاء ما اعتبره هجوماً على الديمقراطية بالولايات المتحدة.
كما ندّد عدد من حلفاء الولايات المتّحدة الغربيين باقتحام متظاهرين من أنصار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مقرّ الكونغرس في واشنطن، داعين إلى احترام نتيجة الانتخابات الرئاسية التي فاز بها جو بايدن.
تخوّف من تقليد الشعبوية الأمريكية
لا شك أن مثل هذه التصريحات تشكل دعماً قوياً لأقوى حليف لأوروبا يتعرض لهزة كبرى أمام مرأى ومسمع العالم، لكن المتأمل في الخطاب الرسمي الأوروبي وفي النبرة القوية التي تضمنها يدرك وجود خلفيات، أهمها تخوف من تكرار سيناريو واشنطن في باريس أو لندن أو برلين، في ظل زحف موجة الشعبوية على ديمقراطيات أوروبا، وكأن لسان حالهم يقول: إذا كان هذا السيناريو قد حصل في الولايات المتحدة التي تُعتبر “قلعة الديمقراطية الغربية”، فمن يضمن عدم حصول مثله في ديمقراطية أوروبية أكثر هشاشة؟!
ذلك أن النموذج الأمريكي حاضر على كل المستويات في أوروبا نتيجة العولمة على الطريقة الأمريكية التي اكتسحت العالم وأوروبا أساساً، فهو حاضر في الفن وفي آخر “تقليعات الموضة” وفي الاقتصاد وفي السياسة، فلا غرابة أن يجد بعض المتنطعين من أنصار الأحزاب الشّعبوية في أوروبا في اقتحام مبنى الكونغرس الأمريكي نموذجاً يدفعهم إلى محاكاة أنصار ترمب بحجة الدفاع عن الديمقراطية حسب تصورهم وعلى مقاسهم.
ولعل في خطاب التنديد الذي قام به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إشارة واضحة إلى هذا التخوف من تقليد الشعبوية الأمريكية في بلاد أوروبية تشهد، بدورها، تصاعداً لموجة الشعبوية، فقد تحدث بنبرة قوية قائلاً: لقد كان خيارنا لعدة قرون، أن نضع كرامة الإنسان والسلام واحترام الآخرين والاعتراف بالحرية فوق كل شيء، التي أصبحت مهددة اليوم في ديمقراطياتنا، وأضاف: ثقتنا قوية في الديمقراطية الأمريكية، وسنواصل نضالنا المشترك حتى تظهر ديمقراطياتنا أقوى من هذه اللحظة التي نعيشها جميعًا اليوم، واستطرد قائلاً: لن نستسلم لعنف قلة ممن يريدون التشكيك في الديمقراطية، في حين كان سياق الحديث التنديد بما حصل في الكونغرس الأمريكي، وللتذكير فإن مارين لوبان، رئيسة حزب أقصى اليمين، هي المنافس الكبير لماكرون في الاستحقاق الانتخابي في السنة القادمة.
تخوّف من تحوّل العالم الغربي إلى عالم ثالث
لقد أدخلت مشاهد اقتحام “كابيتول” -وما تبعها من أعمال تخريبية- الفزع لدى الرأي العام الغربي حكومات وشعوباً خوفاً من تحوّل العالم الغربي “الديمقراطي” إلى “عالم ثالث” متخلف يتسلط فيه القوي على الضعيف، وخوفاً من ضياع “الوجاهة” الغربية على المستوى العالمي، إذ إن مسألة الديمقراطية هي بمثابة “حصان طروادة” الذي تتخفى وراءه النخبة الغربية لتبرير نوع من الاستعلاء والهيمنة على مقدرات العالم، وهذه التبعية بدأت تهتزّ من عقود بسبب التشكيك في النموذج الغربي عموماً ومدى قدرة الغرب الأوروبي والأمريكي على قيادة العالم في ظل هزات كبرى سياسية واقتصادية واجتماعية شهدها هذا القطب المهيمن.
ثم إن ما أحدث صدمة أكبر هو سياسة المكيالين في الولايات المتحدة خاصة في عهد الرئيس المنتهية ولايته ترمب، إذ اللافت للانتباه في عملية اقتحام مبنى الكونغرس الأمريكي عدم الحزم مع مخرّبين وصفهم البعض بـ”الإرهابيين”، ولم يتم التصدي لهم بصرامة من طرف قوات الشرطة والأمن، مما شجّع هؤلاء على العبث بالمقر وأثاثه ووثائقه والتعدي على نواب الدولة في أكبر مؤسسة لسيادة الدولة، في حين شاهد العالم صوراً لقمع مظاهرات السود وعمليات قتل عمد، بما لا يدع شك في وجود تسامح مع أنصار ترمب لأنهم من البِيض العنصريين حتى ولو كانوا مخرّبين ومجرمين، وبروز منحى عنصري جلي ضد السود وضد الأقليات في الولايات المتحدة.
ما حقيقة مؤامرة تقويض الديمقراطية الغربية؟
لقد أُسقط في أيدي المغردين ليل نهار من بعض النخب الفكرية والسياسية والإعلامية الأوروبية الغربية بأن الديمقراطية على الطريقة الغربية “مهددة من أعداء من الخارج أو من حاملي الأيديولوجية الإسلاموية”، ومثل هذه التصريحات يتم تكرارها كلما تحصل أعمال إجرامية إرهابية يقوم بها شباب يُحسَبون على الإسلام والمسلمين، في محاولة لترسيخ فكرة وجود مؤامرة لتقويض الديمقراطية الغربية من أناس يحملون الحقد والضغينة على الغرب ممن هم مقيمون داخله أو من خارجه، وهمّهم الوحيد إفشال النموذج “الناجح” انطلاقاً من كون الغرب هو “صانع الديمقراطية” المحترِمة لإرادة الشعوب،
وموضوعياً، لا ينكر إلا جاحد وجود أقدار كبرى من احترام إرادة الشعوب الغربية في اختيار ممثليها في المناصب السيادية التنفيذية والتشريعية، خاصة في البلاد الأوروبية الغربية، ولكن النخب الغربية التي تتحدث عن مؤامرة لتقويض الديمقراطية الغربية تدرك بأن خطراً ليس مصدره بعض العناصر المتشددة المهمّشة ممن يحسبون على الإسلام وأهله، فهؤلاء مشكلتهم مع الغرب نزعة الهيمنة على الشعوب خارج الدائرة الغربية وعدم احترام إرادتها في الحرية والكرامة والعدالة، وسعي البعض إلى تقويض المسار الديمقراطي الذي انتهجته أو تريد انتهاجه بلدان غير أوروبية وليست في الفضاء الغربي، عملاً بمقولة “حلال عليّ حرام عليكم”.
وبالتالي، فإن الخطر الحقيقي على الديمقراطية يعود أساساً إلى الأيديولوجية الشعبوية العنصرية التي تأتي على الأخضر واليابس وتهدد بتقويض مؤسسات الدولة.
إن ما حصل في الولايات المتحدة سيترك بصمات عميقة في الضمير الجمعي الغربي وخارجه، وستبقى مشاهد اقتحام مؤسسة سيادية في أعتى دولة في العالم عالقة في الأذهان حتى لو سعى الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن إلى إصلاح الخور وتحسين الصورة الخارجية لبلده، فهناك قناعة داخلية بأن سرطان العنصرية قد استفحل في بعض البلاد الأوروبية والغربية، وأن الديمقراطيات الغربية باتت مهددة إذا لم يتم تدارك الأمر بالتضييق على الشعبوية الزاحفة.