ربما تُعرَض مكامن قوة العدو الصهيوني في أقصى درجاتها على لسان قادته، ولا سيما ملك البيت الثالث «بنيامين نتنياهو» عندما قال: «لا بقاء ومستقبل لدولة «إسرائيل» دون قوة عسكرية (طائرات مقاتلة وسايبر وقبة حديدية إلخ..)، والقوة العسكرية غير ممكنة إلا بالمال، والمال لا يمكن كسبه من الضرائب التي تجبى من المستثمرين؛ لأنها ستطرد الاستثمار، فالحل اقتصاد حر، ومجموع القوتين الاقتصادية والعسكرية أوجد لنا القوة السياسية، وكل هذا لا يكفي بدون القوة الروحانية، وعليه؛ فإن الأضلاع الأربعة للمربع الحديدي: القوة العسكرية، القوة الاقتصادية، القوة السياسية، القوة الروحية».
تعتبر مصادر القوة هذه التي ذكرت بالمقدمة لدى الكيان الصهيوني، التي استعرضها «نتنياهو»، هي ما امتاز به هذا العدو، ومن نقاط القوة لديه:
الكيان يمتلك 700 طائرة هجومية ومقاتلة وطائرات «إف35» ومئات دبابات «المركافاة» وناقلات الجنود المحصنة
أولاً: التفوق النوعي في الأسلحة:
يمتلك العدو الصهيوني سلاح جو متميزاً يتفوق على أسلحة الجو (المعادية) كماً ونوعاً، فلديه ما يزيد على 700 طائرة هجومية ومقاتلة، وقد تعزز في الآونة الأخيرة بعدد من طائرات «إف35» المتطورة، وسلاح بر مؤلف من مئات دبابات «المركافاة» وناقلات الجنود «نامير» المحصنة، ومدافع من كل الأعيرة والمديات، وسلاح بحري مزود بـ6 غواصات متطورة وفرقاطات وسفن حربية أخرى متنوعة، إضافة لعدد من القوات الخاصة في كل سلاح تعمل خلف الخطوط، وتبادر في عمليات استباقية على غرار «سييرت متكال» التابعة للاستخبارات العسكرية وتخضع لهيئة الأركان، و»الشييتت 13» التابعة لسلاح البحر، و»الرفرف» التابعة لسلاح الجو، إضافة للواء «الكوماندوز» المحمول جواً، إلى جانب طبقات السلاح المضاد للصواريخ والطائرات؛ «القبة الحديدية»، و»العصا السحرية»، ومنظومة «حيتس».
ثانياً: القدرة الاستخبارية:
نظراً لاعتماد الإنذار المبكر في العقيدة العسكرية، تحرص الأجهزة الأمنية والعسكرية على امتلاك قدرات متنوعة تكنولوجية وبشرية لجمع المعلومات؛ لتمكِّن القيادة السياسية والعسكرية من تقدير الموقف وتحديد المخاطر والتحديات، واتخاذ الموقف المناسب بشكل استباقي؛ لمنع الحصول على أسلحة تخل بالتوازن، أو تنفيذ عمليات وشن هجمات مباغتة تفاجئ العدو يكون غير مستعد لها ومتحرز منها؛ الأمر الذي عزَّز بناء أجهزة استخبارية مهنية ومتنوعة تقوم بالمبادأة والمبادرة.
ثالثاً: التفوق “السايبراني”:
تنبه الكيان مبكراً لأهمية «السايبر»، وعين في هيئة الأركان قائداً برتبة لواء لإدارة هذا الملف، ورصد ميزانيات عالية جداً، وجنَّد قراصنة ومختصين في المجال، على قاعدة إقامة منظومة من «السايبر» تساعد المقاتلين على الأرض، ولتوفير أكبر قدر ممكن من المعلومات الأمنية والاستخبارية؛ فـ»السايبر» لم يعد وسيلة دفاعية، وإنما جزء من المنظومة الهجومية لدى العدو.
كل حملات التطبيع لا تصنع وجوداً للاحتلال الذي يعتمد في كل شيء على الإمداد
رابعاً: تحالفاته الدولية والإقليمية:
أدرك قادة العدو أنهم لن يتمكنوا من تحقيق الاكتفاء الذاتي كاملاً؛ كون كيانهم صغيراً ولا يحتمل العزلة الدولية أثناء الحروب، ولا يحتمل حرباً مركزة لفترة طويلة، حيث يحتاج لدعم دبلوماسي في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ودعم اقتصادي يضمن الاستمرارية والبقاء، وعسكري يضمن التفوق النوعي والتكنولوجي.
بناء على هذا، رسخ في عقيدته الأمنية اعتماد دولة كبرى كحليف تقدم له الدعم في كل المجالات التي يرى فيها نقصاً مخلاً يؤثر على أمن الكيان واستقراره.
خامساً: قدراته العلمية والتكنولوجية:
تشكل صناعة التكنولوجيا 50% من صادرات «إسرائيل»، وتتطلع لأن تصبح من الدول الريادية في عالم «الهايتك» والابتكار والبحث العلمي، حيث يوجد لديها حوالي 4 آلاف شركة توظف 300 ألف مهندس وباحث في مجال التكنولوجيا الطبية والتطبيقات وتطوير البرامج والاتصالات والبرمجة والإنترنت.
سادساً: الاستثمار في الغاز:
تم اكتشاف كميات كبيرة من الغاز الطبيعي في المياه الإقليمية على سواحل فلسطين والمحاذية للبنان وقبرص ومصر، تبلغ فوق الـ199 مليار متر مكعب من الاحتياطيات المثبتة، حيث ستمنح الكيان مزايا اقتصادية هائلة.
نقاط الضعف
كما لهذا الكيان من نقاط قوة، فلديه أيضاً نقاط ضعف تتمثل في:
أولاً: تراجع مكانة الجيش والروح القتالية والقيم الوطنية:
تم رصد تراجع ملحوظ بنسب التجنيد للجيش عموماً والألوية المقاتلة خصوصاً، وأصبح البقرة المقدسة (الجيش) الذي كان فوق النقد، ويقع في قلب الإجماع؛ عرضة للانتقاد العلني على وسائل التواصل الاجتماعي، كما أن المصلحة الوطنية لم تعد معياراً وضابطاً لسلوك القيادات ومحدداً لقرارات الأحزاب، فسادت حالة من قلة الثقة بالأحزاب وفقدت المصداقية.
الثقة بالأحزاب قلَّت فلم تعد المصلحة الوطنية معياراً لسلوك القيادات ومحدداً لقراراتها
ثانياً: تزايد الانقسام السياسي والاجتماعي:
خلال عامين، أجريت 3 انتخابات متتالية لم تشكل على إثرها حكومة مستقرة، وبقيت هذه المرحلة الحافلة بالأحداث المزدحمة بالتحديات بدون استقرار سياسي؛ حيث لم تتمكن الحكومات الثلاث من تمرير الميزانيات، ولم تتمكن من استنفاد جزء من وقتها المحدد قانونياً، وفي الوقت الحاضر توشك الأحزاب على الذهاب لانتخابات رابعة؛ نظراً لغياب الاستقرار السياسي وعجزها عن إقرار الميزانية، وكل ذلك يعود لخلافات شخصية ودينية وقانونية تتعلق بدور المحكمة العليا وعلاقة الدين بالدولة.
ثالثاً: صعود اليمين المتطرف:
أظهرت كل الاستطلاعات الأخيرة أن الجمهور الصهيوني استدعى الدين بقوة، وانحاز باتجاه اليمين بشدة، وانعكس ذلك على حضور الأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة في كل الاستطلاعات؛ حيث سجل ارتفاعاً ملحوظاً لصالح اليمين يسمح بتشكيل أي حكومة بأريحية؛ الأمر الذي سينعكس على علاقة الكيان مع المحيط الإقليمي والدولي، ويعزز خيارات الحركات الإسلامية لدى الفلسطينيين بقوة؛ مما يمس مكانة الكيان ويعرض تأييده الدولي للضرر، ويحسم خيار الكفاح والمقاومة لدى الفلسطينيين والعرب.
رابعاً: تعاظم تأييد المتدينين في المجتمع الصهيوني:
يزداد حضور المتدينين ويتضاعف تأييدهم؛ حيث بلغت نسبة التيار الأرثوذكسي من 25 – 35%، والتيار الديني القومي من 15 – 20%، وتيار الحريديم 10%، ونسبة الذين لا ينخرطون في سوق العمل ولا يتجندون في الجيش ويتعلمون بمدارس خاصة تعليماً غير متصل بسوق العمل 20%، وهو قابل للزيادة بعد عقد ليصل إلى ثلث الجمهور؛ حيث يشكل عالة ويتكل على الدولة بشكل كامل، ويكتفي بتعلم التوراة وحتى الدعاء يوجَّه ضد الدولة نظرًا لاعتبارها دولة علمانية كافرة.
خامساً: تعدد التصدعات في المجتمع الصهيوني:
لقد فشل مشروع الصهر المجتمعي للطوائف والعرقيات في بوتقة واحدة، وما زالت أقلية من «الأسكناج» (اليهود الغربيين) تتحكم بالمجتمع وطوائفه، وما زال اليهود الشرقيون درجة ثانية، وفي داخل هذه الطائفة درجات وفوارق ما بين الشرقي من أصول مصرية وعراقية وسورية ومغربية وجزائرية ويمنية وإثيوبية.. إلخ، وهناك طبقات أسياد وعبيد بالتسلسل والتراتب، ويتربع على القمة 2.5% نخبة من «الأسكناج» المكونة من ضباط الجيش والأمن ورؤوس الأموال والسياسيين والأساتذة الجامعيين والصحفيين.
سادساً: المساحة الجغرافية وفقدان العمق الإستراتيجي:
حيث شكل الكيان الممتد من الجنوب إلى الشمال الضيق من الغرب إلى الشرق، وتكدس السكان في مساحات ضيقة في منطقة «جوش دان» (تل أبيب وما حولها)، وتجمع القاعدة الصناعية في منطقة ضيقة في منطقة «هرتسيليا» وشمالها، حيث من السهل بترها واستهداف تجمعاتها الحيوية.
التهديدات وكيفية الاستثمار
يواجه العدو الصهيوني معضلة عالقة بكيفية بناء قوة قادرة على التعامل مع التحديات الأمنية الحالية والمستقبلية في آن واحد، وكيف يحافظ على جهوزيته من حيث الإمكانات والتشكيلات لمواجهة كل التحديات، حيث اتضح للعدو في كل مواجهة مع المقاومة أن السلاح الذي تم شراؤه وصناعته والتدرب عليه لمواجهة التحديات لم يكن ملائماً مع سلاح وتكتيكات المقاومة، وفي ظل تنامي قوة محور المقاومة وتعدد الجبهات سيكون التفوق الإستراتيجي لدى العدو عرضة للخطر والتبدد في مواجهة التحديات التكتيكية العملياتية.
لا شك أن الكيان الصهيوني يمتلك جهازاً استخبارياً متفوقاً و»سايبرانياً» مهنياً، إلا أن اتساع المهمات وتعدد الجبهات بعد ما كانت مقتصرة على غزة وجنوب لبنان لتصبح ممتدة على رقعة أوسع وفي مجالات ومستويات مختلفة؛ فرض إيقاع معركة تختلف مع ما تم التدريب عليه للجيش، وما يتوافق مع المعدات على دقتها في الإصابة وقدرتها في التدمير وتنوعها ومداها وكثافتها، حيث لو اتخذنا غزة نموذجاً لوجدنا أنها افتقرت للتضاريس الوعرة، لكنها ابتكرت في أعماق الأرض أنفاقاً للهجوم والدفاع، وبذلك حيَّدت التفوق الجوي والبري والبحري أثناء الدفاع والهجوم والإمداد.
كما أن المستحضر لتاريخ البيت الأول والثاني يجد أنه لم ينهَر من قلة موارد وإمكانات وسلاح على أنواعه، إنما لصراعات وخلافات نشبت بين الأسباط والطوائف أدت لانهيار البيتين، والبيت الثالث اليوم يعاني من نفس العوارض التي عانى منها البيتان الأول والثاني، خلافات وتصدعات بين العلمانيين والمتدينين، بين الشرقيين والغربيين، بين اليهود والفلسطينيين، بين الأغنياء والفقراء، بين المتدينين القوميين والمتدينين الحريديم، ولم يعد شيء مقدساً؛ حيث تمنى «نتنياهو» أن يقود البيت الثالث أكثر من البيت الثاني زمن الحشمنائيم، الذي دام 80 عاماً ونيفاً، و»نفتالي بينت» كان قد توسل على اليمين التوافق لحماية البيت الثالث ما يزيد على حكم الحشمنائيم.
ولا يبتعد عن ذلك «بني موريس»، أحد المؤرخين الجدد، عندما قال: «النهاية محتومة لا أرى لنا مخرجاً»، و»أبراهام بورج»، ابن رئيس الدولة وأحد قيادات اليسار وعضو «الكنيست»، تنبأ بانهيار البيت الثالث لهيمنة عقلية «الجيتو»؛ فالوضع الاقتصادي يرثى له، ومنذ عقود ثلاثة لا يتعافى من الأزمات التي يمر بها، والاعتماد على الدولة العظمى في الإمداد البشري والاقتصادي والعسكري لن يدوم ولن يستمر، وكل حملات التطبيع لا تصنع وجوداً للاحتلال الذي يعتمد في كل شيء على الإمداد، وهو يقع في بحر من الأعداء الفطريين والأيديولوجيين.
كما أن سلم التطور الحضاري ليس في صالحه؛ فكل مهندس حصل على علمه في بلاد الغرب يوجد مقابله عشرة من العرب ويزيد، وكذلك كل تخصص ومورد له علاقة بالتطور نتفوق عليه أضعافاً مضاعفة؛ فالتجربة الإنسانية عبر التاريخ أثبتت أن الظلم والاحتلال لا يدومان، بقليل من الصبر والثبات والإيمان بالأمة التي قامت ونهضت مراراً عبر التاريخ وتفوقت وأنجزت وانتصرت ما زالت حية، والتجربة في الماضي تجاوزت النطفة والبويضة في الرحم والعلقة والمضغة، وأصبحت جنيناً، وخرج إلى النور، وتمدد من طنجة حتى جاكرتا؛ فالأيام دُوَل، والإرادة السياسية المكبلة ستتحرر، ولن تقبل بالظلم ولن تذعن وتستسلم للاحتلال.