منذ أكثر من 5 سنوات، استقل دونالد ترمب المصعد الذهبي لينزل من برج ترمب في نيويورك ليعلن عن خوض سباق رئاسي كانت فرصته فيه ضئيلة.
كان ترمب عندئذ شخصاً هامشياً دخيلاً في الحزب الجمهوري، ونجم تلفزيون الواقع المشهور بتقطيع شرائح اللحم وربطات العنق، والذي قوبل ترشحه بسخرية من جانب النخبة السياسية.
ولكن خطاب ترمب البغيض والصادم الذي ألقاه في ذلك اليوم وهاجم فيه المهاجرين المكسيكيين ووصفهم بأنهم مغتصبون كان ينذر بنمط متقلب من السياسة هيمن على الحزب الجمهوري والبيت الأبيض في نهاية المطاف.
وبلغت عواقب أربع سنوات من حكم ترمب في البيت الأبيض إلى ذروتها في وقت سابق من هذا الشهر عندما قام حشد من أنصاره بنهب مبنى الكونغرس (الكابيتول)، ما أدى إلى مقتل رجل شرطة، وإلى إيقاف المصادقة على فوز الرئيس المنتخب جو بايدن بشكل مؤقت.
وقالت مجموعة تضم أكثر من 1000 مؤرخ وكاتب في رسالة مفتوحة تدعم عزلاً ثانياً للرئيس ترمب: طوال ولايته الرئاسية، تحدى ترمب الدستور وخالف القوانين والأعراف والممارسات والسوابق، التي يتعين محاسبته عليها الآن وبعد مغادرة منصبه.
وقالت المجموعة: لا ينبغي أن يكون مرور نموذج التحدي من جانب ترمب بدون عقاب أمراً مغرياً بالنسبة لأي رئيس في المستقبل.
وحقق ترمب إنجازات وهزائم سياسية ملحوظة، وأطلق حركة مؤامرة غير مسبوقة في السياسة الأمريكية وقوض الإيمان والثقة بركائز الديمقراطية الأمريكية.
وعلى المدى القريب، أسفرت حركة ترمب السياسية عن فشل تاريخي للحزب الجمهوري تمثل في خسارة السيطرة على مجلسي الكونجرس (النواب والشيوخ) والبيت الأبيض لتصبح تحت هيمنة الديمقراطيين، وهذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا التحول الشديد منذ عام 1932.
ويترك ترمب البلاد وقد دمرتها جائحة فيروس كورونا التي قلل من شأنها بشدة وأدار أمرها بشكل سيئ.
وقال مايكل بيشلوس، وهو مؤرخ للأحداث الرئاسية لقناة “أم إس إن بي سي”، في ديسمبر الماضي، عن ترمب: إنه كان مسؤولاً إلى حد كبير عن وفاة مئات الآلاف من الأمريكيين بدون داع.
والآن، مع تصويت أكثر من 74 مليون أمريكي لصالح ترمب، واعتقاد جزء كبير من هؤلاء الناخبين أن الديمقراطيين سرقوا الانتخابات، ساعد ترمب الكثير من أفراد المجتمع الأمريكي على العيش في واقع زائف يمكن أن يؤثر على العديد من جوانب فترة ولاية بايدن.
وبعد سنوات من موافقة الحزب الجمهوري علانية وضمنياً على خطاب ترمب المعادي للأجانب، يدفع العديد من المشرعين الديمقراطيين، مثل ألكساندريا أوكاسيو كورتيز، صوب التوصل إلى توافق ولو بقدر قليل بين الحزبين وانتهاج سياسات واسعة النطاق بشأن تغير المناخ والعدالة الجنائية وإصلاح الهجرة.
وأدى ترشيح ترمب للقاضية آمي كوني باريت بعد أيام قليلة من وفاة أيقونة المحكمة الليبرالية روث بادر جينسبيرج بشكل حاسم إلى تغيير التوازن الأيديولوجي للمحكمة نحو الأيديولوجية المحافظة، وهو الأمر الذي من المرجح أن يؤدي لعقود قادمة دوراً محورياً في قضايا الإجهاض وحقوق حيازة السلاح والحصول على الرعاية الصحية.
وفرض ترمب سياسات هجرة متشددة شهدت تشييد جدار محصن على طول أجزاء من الحدود الأمريكية مع المكسيك، ومنع دخول طالبي اللجوء إلى البلاد وفصل أكثر من 3000 طفل عن أولياء أمورهم عند الحدود.
وأشرف الرئيس ترمب أيضا على سياسة خارجية ابتعدت عن الحلفاء الأوروبيين، وأشعلت حرباً تجارية مع الصين، بينما انقلب على الاتفاق النووي الإيراني وعزز الاحتلال الصهيوني بالنسبة للفلسطينيين.
وربما يتمكن بايدن بسرعة من علاج تأثير إرث ترمب على بعض القضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية. فأوروبا، على سبيل المثال، تستقبل رئاسة بايدن بأذرع مفتوحة بعد سنوات من سياسات ترمب المريرة تجاه المنطقة.
كما تعهد بايدن بالانضمام مرة أخرى إلى اتفاقية باريس للمناخ، مما يمنح الولايات المتحدة فرصة أخرى لقيادة السياسة العالمية الخاصة بتغير المناخ.
ومن المرجح أن يثبت إرث ترمب أنه باق لفترة أطول في ساحات أخرى، وليس من الواضح ما إذا كان بإمكان بايدن أن يحيي الاتفاق النووي الإيراني بعد أن فرضت إدارة ترمب عقوبات خانقة على طهران وقتلت القائد العسكري البارز قاسم سليماني، وهو إجراء كاد أن يؤدي إلى اندلاع حرب بين الدولتين.
وكتب ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية: بينما كان العالم يشهد اضطرابا متناميا بالفعل، وبينما كان النفوذ الأمريكي يضمحل بالفعل، قام ترمب بتسريع وتيرة هذين التوجهين بشكل مثير.
وأضاف هاس: خلاصة القول هو أنه يسلم بلداً وعالماً في حالة أسوأ بكثير مما ورثهما، وهذا هو إرثه المفجع.
من جهة أخرى، يبدو أن سياسات ترمب تجاه الصراع من “الإسرائيلي” الفلسطيني وإيران قد خلقت وضعا راهنا جديدا في المنطقة شدد من قبضة سيطرة إسرائيل على الأراضي التي يطالب بها الفلسطينيون وأنشأت سفارة أمريكية جديدة في القدس سوف يكون من الصعب على بايدن من الناحية السياسية واللوجستية إعادتها إلى “تل أبيب”.
في الوقت الذي ينهي فيه بايدن ولاية حكم ترمب الفوضوية في 20 يناير الجاري، يظل مستقبل ترمب في الحزب الجمهوري وفي السياسة الأمريكية غير واضح، وبعد كل هذا، فأنه لم يواجه بعد محاكمة في مجلس الشيوخ، لكن مما لا شك فيه أن تأثيره سوف يستمر.