في هذه الحلقة نتناول النص الحضاري الذي كتبه الإمام حسن البنا (1906-1949)[1]
بمناسبة انعقاد مؤتمر الوحدة العربية تتضمن لون الحضارة التى يجب أن تصطبغ بها الأمة العربية في حاضرها الآمل ومستقبلها وعلاقتها بالحضارة الغربية. والميزان الذي ينبغي أن نتعامل به مع هذه الحضارة، ونقائص تلك الحضارة، وبذور الحركات الاحتجاجية على تلك النقائض. ثم يعرج على مقوماتنا الأصيلة والتي يعتبرها ركائز النهوض الحضاري.
تعليق على النص:
مثلت إشكالية المثاقفة مع الغرب منذ مطلع عصر النهضة الحديثة، مأزقًا للعقل المسلم في شكل التعامل مع الغرب، والموقف من الإنتاج العلمي والتقدم التقني الذي أفرزته الحضارة الغربية، واتخذ العقل المسلم في سبيل ذلك موقفين متضادين: الأول الرفض التام لكل ما يأتي من الغرب، ورفع هذا الفريق مقولة “كل ما يأتي من الغرب شر” مبررًا باختلاف النموذج الصادر عنه الحضارة الغربية والاعتقاد مع النموذج الإسلامي وتصوراته، بالإضافة إلى ما عاناه العالم الإسلامي تحت وطأة الاستعمار الأوروبي الذي اعتبر في بعض الكتابات أنه كان من أهم عوائق النهضة الإسلامية التي بدأت بصحوة العقل المسلم إبان الاحتكاك بالحضارة الأوروبية الحديثة مطلع القرن الثامن عشر، والفريق الثاني: القبول التام لكل منجزات الحضارة الأوروبية الحديثة، ورافعًا شعار “أنه إذا أردنا أن ننفض غبار التخلف عن العالم الإسلامي ونلحق بعصر النهضة العلمية والتقدم لابد من السير على طريق الحضارة الغربية حلوه ومره، مبررًا ذلك بعمق حالة التخلف التي يحياها العالم الإسلامي والتباين العلمي الواضح لصالح الحضارة الغربية، ومن ثم قام هذا الفريق بمحاولات لنقل تجربة العقل الغربي في الواقع الإسلامي بما سمي بتجربة التحديث، والذي عرف لدى البعض بالغزو الثقافي والفكري للعالم الإسلامي.
لم يفطن العقل المسلم الباكر في اتصاله بالحضارة الغربية ونموذج التقدم الذي قدمته بكل تجلياته وأبعاده إلى تأسيس طريق ثالث، يقوم على وضع أسس مثاقفة حضارية، تستمد قيمها من قيم الحضارة الإسلامية ذاتها، ومن مستجدات الواقع وطموح المستقبل، ومن النصوص القليلة في هذا الميدان، هذا النص الذي كتبه حسن البنا، وقدمه إلى زعماء الأمة العربية المؤتمرين في القاهرة عام 1945م، يوضح طريقًا ثالثًا للتعامل مع الغرب، يقوم على استحضار القوة الوجدانية للعقل المسلم، وعلى قاعدة الانفتاح، وقاعدة التكافؤية الحضارية، وقاعدة الحكمة ضالة المسلم، وقاعدة الانصاف غير المشروط، وقاعدة الفحص المعرفي والتحليل العلمي لسياقات تلك الحضارة، وقاعدة المشترك الإنساني، والخصوصية الحضارية. وهذا ما يقدمه النص الحضاري التالي.
النص الحضاري
الأمة العربية بين حضارتين
موقف العقل العربي من الحضارة الغربية
الرأي العام العربي يذهب في هذه الناحية مذهبين مختلفين: فمن الناس من يدعو إلى الحضارة الغربية ويحض على الانغماس فيها وتقليد أساليبها “خيرها وشرها، حلوها ومرها، نافعها وضارها، ما يحب منها ما يعاب”، ويرى أنه لا سبيل للنهوض والرقى إلا بهذا “ومن زعم لنا غير ذلك هو خادع أو مخدوع”. ومن الناس من ينفر من هذه الحضارة أشد التنفير، ويدعو إلى مقاومتها أشد المقاومة، ويحملها تبعة هذا الضعف والفساد الذي استشرى في الأخلاق والنفوس. ولا شك أن كلا الفريقين قد تطرف، وأن الأمر في حاجة إلى دراسة أعمق وأدق، وإلى حكم أعدل وأقرب إلى الإنصاف والصواب”.
ويدعو البنا إلى تقديم قراءة منصفة للحضارة الغربية ونبذ القراءة الحدية، أي الوقوف على ايجابيتها وسلبياتها انطلاقًا من مبدئية العدالة المطلقة في النهج الإسلامي [وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] {المائدة:8}.
إنصاف الحضارة الغربية
لقد وصلت الشعوب الغربية من حيث العلم والمعرفة واستخدام قوى الطبيعة والرقى بالعقل الإنساني إلى درجة سامية عالية، يجب أن تؤخذ عنها وأن يقتدي بها فيها، وهي إلى جانب ذلك قد عنيت بالتنظيم والترتيب وتنسيق شئون الحياة العامة تنسيقا بديعا يجب أن يؤخذ عنها كذلك، وهذه الحقائق لا يكابر فيها إلا جاهل أو معاند، ولكن هذه الحياة الغربية والحضارة الغربية التى قامت على العلم والنظام فأوصلها إلى المصنع والآلة، وجبى إليها الأموال والثمرات، وملكها نواصي الأمم الغافلة التى لم تأخذ في ذلك أخذها ولم تصنع صنيعها.
نقائص الحضارة الغربية المعاصرة
هذه الحياة المادية الميكانيكية البحتة مع ما صحبها من خصومة حادة بين علماء الدنيا وحراس الدين قد أغفلت هذه الأمم عن أخص خصائص الإنسانية في الإنسان؛ عن الغرائز ومستلزماتها، والمشاعر ومطالبها، والنفس وعالمها، وطرائق تنظيم ذلك كله وضبطه ضبطا يضمن خيره ويحبس شره، ودفعت بها دفعا عنيفا إلى التبرم بالعقائد والأديان والخروج عليها خروجا قاسيا شديدا وإقصائها إقصاء تاما عن كل نواحي الحياة الاجتماعية العملية. فأسقطت الحياة الغربية من حسابها جلال الربانية، والتسامي بالنفس الإنسانية، والاعتقاد بالجزاء الأخروي. واضطربت بذلك بين يديها المقاييس الخلقية وانطلقت غرائز الشر من عقالها تحت ستار الحرية الشخصية أو الاجتماعية، ونجم عن ذلك أن تحطمت الفضائل في نفوس الأفراد، وتهدمت الروابط بين الأسر، وفسدت الصلات بين الأمم، وصارت القوة -لا العدالة- شريعة الحياة، واندلعت نيران هذه الحرب فتذوق حرها المحاربون والآمنون على السواء.
بذور التيارات الاحتجاجية في أوروبا
وقد أدرك هذه الحقيقة أخيرًا ساسة الأمم الغربية أنفسهم فهبوا ينادون بوجوب العناية بالشئون الروحية، ويتغنون بالمثل الخلقية العليا، ويهيبون بالحكومات أن تصبغ المدارس ومناهج التعليم والتربية بعد الحرب بهذه الصبغة، وأن تعود بالشعوب إلى الأديان والعقائد الموروثة. وفى الكتاب الأبيض الذي أصدرته الحكومة الإنجليزية عن التعليم بعد الحرب، وفى تقارير الأحزاب التى وضعت في ذلك، وفى مناقشة مجلس العموم واللوردات لهذا الكتاب من هذا الشيء الكثير.
الميراث القيمي الديني للحضارة الإسلامية وأبعاده الإصلاحية
ونحن العرب قد ورثنا مفاخر هذه الحياة الروحية ومظاهرها، فأقطاب الرسالات العظمى وأنبياؤها المطهرون في أوطاننا نشأوا وعلى أرضنا درجوا، ورموز الديانات المقدسة لا زالت شامخة باذخة في ديارنا تهوى إليها قلوب المؤمنين بالكتب والرسل في أنحاء الأرض وهذا القرآن الكريم الذي ورثناه -نحن العرب- فخلد لغتنا، ورفع الله به ذكرنا، وخاطب به نبينا فقال: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف: 44]. كما خاطبنا فقال: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: 10]. هذا القرآن قد حدد أهداف الحياة الروحية تحديدًا دقيقا مبسطًا بعيدًا عن الأوهام الخيالية والفروض الفلسفية، ووفق بينها وبين مطالب الحياة العملية توفيقًا عجيبًا لم يستقم لغيره من الكتب، ولم يتح لسواه من مناهج الحياة ونظمها. فإذا كنا -نحن العرب- نملك هذه الثروة الروحية الجليلة التى تصل القلب الإنساني بجلال الربانية فتملؤه بذلك إشراقا وريّا، وتكرم في الإنسان معنى الإنسانية فترفع في عينه قيم الفضائل العليا، وتذكر الناس بجزاء الآخرة فتسموا بهم عن الوقوف عند أغراض الحياة الدنيا، وتوثق بين بني الإنسان رابطة من الأخوة لا تمتد إليها يد التفريق والبلى، وتقيم ميزان العدالة الاجتماعية بين مختلف الطبقات على أساس من التعاون والرضى، وتضع لأصول المشكلات حلولا ترتكز على الحق لا على الهوى. إذا كنا نملك ذلك كله، فإن من العقوق لمجدنا وكتابنا وللإنسانية كذلك ألا نتقدم للدنيا بهذه الدواء الواقي والعلاج الشافي.
التكافؤ والتبادل الحضاري بين المسلمين والغرب
ولهذا نعتقد أن من واجب الأمة العربية أن تعمل على الاستمساك بقواعد حضارتها التى تقوم على ما ورثت من فضائل نفسية وأوضاع أدبية ودوافع روحية، على أن نقتبس من الحضارة الغربية كل ما هو نافع مفيد من العلوم والمعارف والصناعات والأساليب، وعلى أن ندعو أمم الغرب إلى الانتفاع بهذا الميراث الروحي الجليل، ونبصرها بما فيه من خير، ونذكرها بما تحتويه من نفع وضر، وبذلك تقوم الصلة بيننا وبينها على أساس من التعاون المشترك يتآزر فيه العقل والقلب على إنقاذ الإنسانية واستقرار الأمن والسلام.
وحدة القيم الدينية في الشرائع السماوية
وقد يقال إن هذا المعنى ينحدر بالعاملين له والداعين إليه إلى معنى من التعصب الديني أو التحزب المذهبي يمزق وحدة الوطن المجتمع ويفرق بين المسلم وغير المسلم، وهذا وهم خاطئ؛ فنحن إنما ندعو إلى الفضائل الروحية والمثل الدينية العليا التى يدعو إليها أهل الأديان جميعا، كما ندعو إلى الانتفاع في حياتنا العملية بهذا التراث القرآني المجيد الذي هو للمسلم دين ونظام، ولكل عربي قومية ومجد، وللدنيا بأسرها طمأنينة وسلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] حسن البنا: “الأمة العربية بين حضارتين “, مجلة الإخوان المسلمين، العدد (55)، السنة الثانية، 3 ربيع ثان 1364/ 17 مارس 1945م، ص (12).