وأخيرًا نجح الرئيس الفرنسي في كسب رهان تأطير عملية تنظيم الدين الإسلامي داخل منظومة العلمانية الفرنسية، من خلال ميثاق أطلق عليه “ميثاق مبادئ الإسلام الفرنسي”، وقّعت عليه يوم الاثنين 18 يناير كبرى الاتحادات المسلمة بحضور الرئيس ماكرون بقصر الإليزيه.
ما هي ملامح هذا الميثاق وأهم مضامينه؟ وكيف تفاعلت معه الأطراف المعنية؟ وما تداعياته على الحضور الاسلامي في فرنسا؟
ولادة قيصرية
ولدت فكرة الميثاق انطلاقا من رغبة الرئيس ماكرون في إنشاء “مجلس وطني للائمة” لتأطير مهمة الخطابة ويكون مسؤولاً عن إصدار الاعتمادات للائمة، وفي نفس السياق طلب الرئيس الفرنسي وضع نص مرجعي ينظم الخطاب الديني في أوساط المسلمين خاصة من طرف الائمة والمؤسسات القائمة على تمثيل الديانة الإسلامية وممارسة الارشاد الديني، مشددا على أن ينص الميثاق على الاعتراف بقيم الجمهورية، والقطع مع “الإسلام السياسي” ، وأن ينص على إنهاء التدخل أو الانتماء لدول أجنبية.
الإشكال أن طلب الرئيس وإصراره على إنجاز هذا الميثاق في أسرع وقت تزامنَا مع وضع غير مناسب للمسلمين. فقد قدّم ماكرون طلبه خلال اجتماعه بأعضاء “المجلس الفرنسي للديانة المسلمة” في شهر نوفمبر 2020م في ظل وضع جد متوتر نتيجة أحداث إرهابية في شهر أكتوبر ركزت عليها وسائل الاعلام، وتمثلت في مقتل الاستاذ سامويال باتي يوم 16 أكتوبر 2020م بعد أن قام بعرض رسوم ساخرة من الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى المدارس الإعدادية ثم أحداث قتل في كنيسة بمدينة نيس جنوب فرنسا يوم 29 أكتوبر 2020م.
وتزامنت هذه الاحداث مع الجدل الذي أثاره مشروع “الانعزالية أو الانفصالية” الذي عرضه الرئيس ماكرون، والذي يتضمن إيحاءات وإشارات واضحة إلى أشكال من التدين لدى المسلمين التي تعتبرها الدولة منافية للعلمانية الفرنسية.
في ظل هذا الوضع المتوتر، وفي ظل الضغط الرسمي من أعلى هرم السلطة لتقديم ميثاق للإسلام في فرنسا، وجدت الاتحادات الاعضاء في “مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا” نفسها ملزمة ماديا ومعنويا بإنجاز هذا المشروع الذي وضعت فيه القيادة الفرنسية كل ثقلها لما يتضمنه من رهانات.
جدل بشأن “الاسلام السياسي”
لم يكن التوصل إلى نص مشترك للميثاق بالأمر السهل، بالنظر إلى التباينات في التصورات وفي الخلفيات بين مختلف مكونات المجلس.
ومن بين الإشكالات المطروحة مسألة تحديد “الاسلام السياسي” والتدخلات أو “التأثيرات الاجنبية”. وهو أمر بالغ الحساسية بالنظر إلى أن عددا من الاتحادات الممثلة لمسلمي فرنسا لها ارتباطات بشكل مباشر أو غير مباشر بدول مسلمة عربية وغير عربية وأهمها المغرب والجزائر وتركيا، وهو ما يُطلق عليه الملاحظون مصطلح “إسلام القنصليات”.
ثم إن مصطلح “الإسلام السياسي” فضفاض ويحتمل تأويلات عدّة، وهو نفس التهمة التي تستخدمها عدة أنظمة عربية لإقصاء خصومها ممن يحملون الفكر الإسلامي الوسطي وممن يرون أنه من حقهم التعبير عن آرائهم عبر التشكل الحزبي في إطار القانون على غرار الاحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا مع الفصل بين المجال الدعوي والمجال السياسي.
أما في أوروبا، وفي فرنسا تحديدًا فإن من بين التيارات الفاعلة من تؤمن بأن الدين ليس مجرد طقوس دينية وإنما يتضمن قيمًا يمكن التبشير بها في المجتمع وتشجّع على المشاركة والانخراط في مؤسسات المجتمع المدني بعقلية المواطنة وفي إطار القانون، في حين أن الدولة العلمانية على الطريقة الفرنسية تريد حصر الدين في المجال الشخصي وتسعى إلى إقصائه من الفضاء العام، وتعتبر النشاط الدعوي الذي يبشر بفكرة المشاركة في المجتمع وبعرض القيم الإسلامية عليه وكذلك اتخاذ مواقف وإصدار بيانات من قضايا المسلمين وعلى رأسها القضية الفلسطينية نشاطًا سياسيًا مرفوضًا واستغلالًا للدين لأغراض سياسية بالرغم من عدم الدعوة لتشكيل أحزاب سياسية وعدم ممارسة السياسة، كل ذلك تبرير يدل على تخوف من انتشار الفكر الإسلامي الوسطي الحضاري لدى الرأي العام. والإشكال أن بعض الكيانات المتواجدة داخل “المجلس الفرنسي للديانة المسلمة” تتبنى هذا الاتجاه العلماني لتظهر بمظهر التمشي مع السياق الرسمي.
المخاض العسير
ونتيجة لهذا التباين في التصورات، قام عميد مؤسسة “مسجد باريس الكبير” المحسوب على الجزائر وبشكل مفاجئ بإصدار بيان يعلن فيه انسحابه من هذا المشروع مبررا موقفه بأنه لا يريد تزكية توجهات لأطراف إسلامية داخل المجلس تستغل الإسلام لأغراض سياسية. وتدخلت الدولة ممثلة في وزارة الداخلية للدفع نحو إيجاد حل، وعادت مختلف مكونات المجلس إلى الاجتماع والتفاوض وانتهى الأمر بالاتفاق على نص ميثاق يكرّس إلى حدّ كبير الاتجاه الرسمي للدولة.
لكن قبل حفل التوقيع على الميثاق بساعات، أعلنت منظمتان ذات انتماء تركي هما “لجنة التنسيق للمسلمين الأتراك في فرنسا” و”ملّي غوروش”، عدم مشاركتهما في التوقيع وطالبتا بمهلة تفكير. والنتيجة لم يحضر حفل التوقيع سوى خمس اتحادات على مجموع تسع فيدراليات، حيث اعتذر “اتحاد مساجد سان دوني ولاريونيون” لأنه “يعتبر أن المؤسسة المحلية لمجلس الأئمة فعالة ويرغب في الإبقاء عليه”. وتغيبت المنظمتان التركيتان وكذلك منظمة “إيمان وتطبيق” وهي مؤسسة تابعة لجماعة الدعوة والتبليغ العالمية ومقر المؤسسة الأم في الهند.
ماكرون والنزعة النابليونية
كان يوم الاثنين 18 يناير يومًا حاسمًا حيث شهد التوقيع على الميثاق بقصر الإليزيه من طرف ممثلين بحضور الرئيس ماكرون الذي رحّب بهذا الميثاق واعتبره “التزاما واضحا ومحددا لصالح الجمهورية وخطوة مهمة جدًا” من خلال السماح “بتوضيح تنظيم ديانة المسلمين”.
ممثلو الاتحادات الموقعة على الميثاق
لذا اعتبر الملاحظون أن أكبر منتصر في هذه العملية هو الرئيس ماكرون الذي نجح في دفع “المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية” إلى تبني مبادرة الرئيس الذي تعرض لانتقادات واسعة بسبب تصريحاته بشأن “أزمة الإسلام في العالم” وإصراره على نشر الرسوم الساخرة، والتي أثارت موجة غضب في العالم الإسلامي إلى حدّ أنه اضطر إلى إجراء حوار مع قناة الجزيرة موجّه إلى الرأي العام الإسلامي.
ثم إن سياسة ماكرون تدل على نزعة متأثرة بالشخصية الفرنسية المشهورة في فرنسا نابليون بونابرت الذي تلقب بالإمبراطور، إضافة إلى كونه نجح في عقد وفاق مع ممثلي الاديان في عهده، بدأه بالكاثوليك والبروتستانت سنة 1801م وشفعه بالوفاق مع اليهود سنة 1808م.
وقد تمكن نابليون من إدماج الديانة اليهودية ضمن منظومة تسوّى التعامل مع الاديان في ذلك الوقت، مع الإشارة المهمة إلى أن هذه العملية تمت قبل التطور الكبير الحاصل في التاريخ الفرنسي والمتمثل في الاعلان سنة 1905 عن قانون العلمانية الذي أقرّ فصل الدين عن الدولة وحيادية هذه الأخيرة عن التدخل في الشأن الديني.
وجاء توقيع الاتحادات المسلمة على “ميثاق مبادئ الإسلام الفرنسي” بمثابة الانجاز الذي حققه ماكرون في عهدته الأولى، والذي سيوظفه في الاستحقاق الانتخابي الرئاسي السنة القادمة. خاصة وأنه نجح في تحقيق مسألتين: التأكيد على البعد الفرنسي من ناحية لان الميثاق يمهّد لإنشاء “مجلس وطني للائمة” يؤطر عملية الإمامة بحيث ينتهي في غضون أربع سنوات وجود 300 إمام في فرنسا مبتعثين من دول مثل تركيا والمغرب والجزائر. ومن ناحية ثانية، يتم تأطير الخطاب الديني والممارسة الدينية الإسلامية على مقاس العلمانية لكن في صيغتها الايديولوجية الجديدة التي تسعى إلى إقصاء الدين من الفضاء العام، خاصة في ظل صحوة إسلامية واعدة.
ميثاق على مقاس العلمانية على الطريقة الفرنسية
تضمن الميثاق عشر مواد أكد بعضها على احترام قيم الحرية والمساواة والأخوة وتوافقها من منظور اسلامي مع القيم المشتركة الإنسانية ومع قيم العلمانية الفرنسية. وفي هذا السياق، تم التأكيد على حرية المعتقد والمساواة بين الرجل والمرأة..
وكان موضوع المادة السادسة -الذي دار حوله الكثير من الجدل- “رفض كل أشكال التدخل وتوظيف الإسلام لأغراض سياسية”. وجاء فيها أن «ميثاق المبادئ» يهدف بكل وضوح إلى التصدي لأي شكل من أشكال استغلال الإسلام لأغراض سياسية و/أو أيديولوجية. لذلك يتعهد الموقعون برفض الانخراط في أي مسار يروج لما يعرف بـ «الإسلام السياسي»*( مع الإشارة التالية (يعني الميثاق بـ “الإسلام السياسي” ، التيارات السياسية و / أو الأيديولوجية المعروفة باسم السلفية (الوهابية) ، والتبليغ، وكذلك تلك المرتبطة بفكر الإخوان والتيارات القومية المرتبطة بها).
في نفس السياق، جاء في الميثاق “نحن نتصدى بحزم لأي حركة أو أيديولوجيا يصرف مشروعها ديننا عن هدفه الحقيقي، ويحاول خلق موازين قوى أو انقسامات داخل مجتمعنا. وبالتالي، فإننا ملتزمون بعدم استخدام الإسلام أو مفهوم الأمة (مجتمع المؤمنين) أو السماح باستخدامه من منظور سياسي محلي أو وطني أو لفائدة أجندة سياسية تمليها قوة أجنبية تنكر التعددية المتأصلة في الإسلام”.
ودائما في نفس السياق، جاء في الميثاق “نحن نرفض استخدام أماكن العبادة لبث الخطب السياسية أو استيراد النزاعات التي تحدث في أجزاء أخرى من العالم. حيث أن مساجدنا ودور عبادتنا مخصصة للصلاة ونشر القيم، وليس لنشر الخطب القومية التي تدافع عن الأنظمة الأجنبية وتدعم السياسات الخارجية المعادية لفرنسا بلدنا ولمواطنينا الفرنسيين. ويجب الرفض بقوة ودون تحفظ تشويه الدين عبر استخدام الإسلام لأغراض سياسية. كما نؤكد أن النظام السياسي يبقى منفصلاً عن النظام الديني. كما لا يمكن لأي من منظماتنا، ولا أي من تعاليمنا، أن يكون هدفها المطالبة بمعاملة مميزة لمسلمي فرنسا”.
وفي موضوع التمويل، تعهد الموقعون بضمان تمويل أماكن العبادة بتمويل وطني، مشددين على أن يتوافق أي تمويل خارجي مع الاحترام الصارم للقوانين المعمول بها ولا يعطي الحق لأي تدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في ممارسة المسلمين لدينهم في فرنسا.
استهداف اطراف معينة
من خلال ما سبق، يظهر جليا التركيز على مسالة “الإسلام الفرنسي” مقابل “الإسلام السياسي”، والحال أن المتابعين للشأن الإسلامي في فرنسا يدركون عدم وجود طرف من بين مكوّنات العمل الإسلامي يتبنّى العمل الدعوي العام ويمارس في نفس الوقت العمل السياسي.
فما خلفية التركيز على “الإسلام السياسي”؟ لعل العملية كلها تستهدف إقصاء من يُعتبرون أطرافا “تمارس السياسة بغطاء ديني”، أو اتحادات لا تعتمد “رؤية جمهورية”، وفقاً للإليزيه.
والإشارة واضحة إلى منظمتين من أصل تركي، اختارتا الانسحاب من التوقيع على الميثاق، ولكن الجميع يعلم أن لهما سندًا قويًا من دولة تركيا ولها مداخلها في التعامل مع الدولة الفرنسية.
أما الطرف الثالث وهو مؤسسة “مسلمي فرنسا” التي كانت تسمى “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا” فهي من المؤسسات المحسوبة على تيار الإخوان المسلمين، وهي مستهدفة من لوبيات علمانية فرنسية وخاصة من طرف رئيسة الحزب اليميني المتطرف مارين لوبان التي دعت في عدة مناسبات إلى حل هذه المنظمة.
والمفارقة، أنها المؤسسة الأولى التي بادرت بالدعوة إلى توطين الإسلام والشعور بالمواطنة، وكانت مواقفها تخدم فكرة الاندماج الإيجابي للمسلمين في مجتمعهم وسعت منذ أكثر من ثلاثة عقود إلى تنزيل هذه المفاهيم عبر خطابها (هي أول من بادر بالدعاء على المنابر: اللهم اجعل هذا البلد آمنا واجعلنا فيه من الآمنين) وأنشطتها وأهمها الملتقى السنوي لمسلمي فرنسا (أكثر من ثلاثين ملتقى) يجمع أكثر من 150 ألف من المشاركين ويحضره علماء من أوروبا ومن العالم الإسلامي.
وساهمت هذه المؤسسة في نشر الفكر الوسطي المعتدل والمنفتح في فرنسا وأوروبا. وشاركت في العديد من المحطات الاستشارية مع الدولة في موضوع تمثيل مسلمي فرنسا.
وأصبحت هذه المؤسسة -التي تضم أكثر من 200 مؤسسة فرعية في فرنسا – “رقما صعبًا” راهن الكثير على إقصائها عبر مقصلة “الإسلام السياسي”، ولكنها نجحت في كسب الرهان من خلال تمسكها بالعمل في الإطار القانوني، وتواجدها في كل مسار الحوار مع السلطة حول “المجلس الوطني للائمة”، وساهمت في إعداد مضامين الميثاق وحضرت مراسم توقيعه بحضور رئيس الدولة، وذلك طبقًا للمنهج المقاصدي وعملًا بفقه الأولويات والمآلات، وهي تسعى من خلال ذلك إلى تطبيع العلاقة مع الدولة وطمأنة المجتمع وتفويت الفرصة على المغرضين، ولديها من الرصيد النخبوي ومن الائمة والطاقم الدعوي ما يجعلها طرفا مهما في رسم ملامح مستقبل الإسلام في فرنسا.
ويبقى أن هذا الميثاق هو ثمرة اجتهاد بشري وليس وحيا منزّلا وقد تختلف الآراء حوله، ولهذا عبرت رئاسة المجلس الفرنسي للديانة المسلمة عن أسفها لصدور بيان عن الاتحادات الثلاثة غير الموقعة على الميثاق يتضمن انتقادا للميثاق، في حين حصل إجماع حوله قبل التوقيع عليه.
صحيح أن هذا الميثاق يخدم بالدرجة الأولى مصلحة القيادة السياسية ولكنه سيفتح صفحة جديدة في العلاقة بين الإسلام والدولة العلمانية في فرنسا، في وقت تجذّر فيه الحضور الإسلامي في القارة الاوروبية والغرب عمومًا.