نحتاج جميعاً في أوقات ولحظات ضعفنا وازدياد آلامنا لصديق مقرب ومن يستمع إلينا جيداً، ويكتم عنا أحزاننا وأحياناً مآسينا، ولا يكتمل دوره إلا بالإشارة علينا بالفعل الصحيح حتى تقصر وتنتهي لحظات آلامنا لا الانسحاب وتركنا؛ وفي ذلك يصدق قول الشاعر:
ولا بُدَّ من شَكْوَى إِلى ذي مُروءَةٍ يُوَاسِيكَ أَوْ يُسْلِيكَ أو يَتَوَجَّع!
إن علاج الروح والنفس حينما تضنيها مصاعب الحياة أن تجد معيناً مخلصاً يتجاوز معها، بل يأخذ بيدها نحو الطريق السوي الصحيح لتواصل المسير؛ لا ليهمله أو يشير إليه بالخطأ أو المزيد من التمادي في الضعف والتيه؛ ولذلك صدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل” (رواه أحمد).
على أن بعض الأخلاء والأصدقاء في هذه الحياة الدنيا الفانية قد يتقاعس ويتكاسل فلا يمد يد العون والمساعدة إلى الآخرين حتى من المقربين إليهم، وقد يتمادى البعض فيشير على أصدقائه أو يهملهم بما لا يرضاه في المقابل لنفسه، وفي ذلك يقول تعالى: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف: 67).
إننا مهما تقدمنا في العمر، أو نلنا من الحياة، لا نستغني عن صديق صالح نرجو الله أن ينفعنا بنصيحته ومشورته الصالحتين في الدنيا، وأن يجمعنا الله به في مستقر رحمته.
القصة الأولى:
حرص وهو يقود سيارته على التشاغل الزائد بالطريق وادعاء عدم صفاء الذهن وهو يستمع إلى والدته تعيد رواية الحلم السيئ:
– رأيتُ صديقك الراحل -أيا وليدي- في ركن مهجور مظلم لا أدري من قبره أو من بناية مهجورة وحيوانات ضارية تهاجمه، فيما انحبس صوته فلا يملك حتى مجرد الصراخ!
قال بعد حين ظنته والدته طويلاً جداً:
– وصلنا إلى البيت -يا والدتي- ترحمي على صديقي وسأعمل على إخراج صدقة على روحه.
لم يبد على الوالدة الاقتناع فقالت دون تمهل:
– قلبي يحدثني أنك تخفي عني شيئاً يخصه، يرحمه الله!
مسح بظاهر يده دمعة انسابتْ على خده قبل أن يفتح باب السيارة الأقرب إليها لتنزل، فيما راحت الخواطر تنساب في ذهنه حزينة مؤلمة وهو يمسك براحتها لتهبط من السيارة؛ لا تعرف والدته أنه قاطع الراحل قبل وفاته بأشهر؛ إذ إن الأخير دخل في “نوبة تحولات شديدة” قادته من شاب مُدلل لدى أبويْه وثري متعثر في دراسته ومهمل في حق ربه وأولها أداء العبادات إلى مبرمج لصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تنشر صوراً غير لائقة، ومع استياء أغلب الأصدقاء من سابق أفعاله طوّر الراحل ما ينشر بحيث صارت الصور بالإضافة إلى مواقع الفيديو المشينة تتجدد تلقائياً دون أدنى مجهود منه.
وغفلة وهو على هذا الطريق المنحرف توفاه الله تعالى في حادثة مريعة، فيما بقيت صفحات مواقع التواصل تنشر ما لا يجوز من بعده وتصب في ميزان الراحل حتى بعد أن فارق الحياة؛ حاول هو وعدد من الأقران الذين كانوا قاطعوا الراحل، حاولوا التواصل مع إدارة المواقع المنتمية إليها الصفحات لوقف ما تنشره ففشلوا في إقناع المسؤولين بوفاة صديقهم “السابق”، ورغبتهم في إيقاف ما كان ينشر مما يحض على الرذائل!
تألم الشاب في نفسه من كثرة المحاولات والمراسلات، بل البلاغات حول هذه الصفحات، وفي النهاية فشلت كل المجهودات لعدم وجود “رموز حماية” الصفحات المتعددة، وعدم اعتراف القائمين على تلك المواقع بفساد ما ينشره صديقهم، أما أكثر ما آلمه هو وأصدقاء الراحل السابقين جميعاً بعد الفشل البالغ والأحلام المريرة التي صارت تطارد كثيراً منهم فهو قول أصغرهم لهم:
– لو أننا اجتمعنا -كما نحن الآن- وبذلنا هذه الجهود المكثفة من أجل نصح ووعظ والإلحاح في الدعاء للراحل في حياته بأن يهديه الله فلربما كنا سبباً في إقالته وانتزاعه من براثن وطريق الشيطان!
القصة الثانية:
فوجئ بصديقه يبتعد عنه تماماً وبزوجته تطلب الطلاق في الوقت نفسه، فاضطر لوقف أعماله الكثيرة التي يديرها من المنزل عبر الحاسب الآلي (الكمبيوتر) والهواتف وأحياناً الفاكس، وتفرغ لساعات طويلة ليفكر في صديقه الذي كان يأتيه شاكياً منهاراً لمشكلات يراها معقدة في معاملة زوجته له؛ ولأنه يستحيي من ذكريات أيام كان الصديق يستقبله فيها في منزله فيأكل ويشرب وربما نام، هذا قبل أن يجد عملاً ثم يتدرج بين مهمات متعددة حتى صار كياناً مستقلاً مكوِّناً شركة صغيرة يلاحق أوراقه ويستلم غيره البضائع ويصدرها للعملاء؛ ومع انشغاله تطور الحوار بين الصديق وزوجته تحت عينيه، فصارت تستمع شكواه وتشير عليه بالرأي الذي تراه مناسباً؛ وبعد أشهر من الحوار فوجئ بأن طلبت الزوجة الطلاق قائلة:
– لا أجد منك اهتماماً من الأساس؛ فجميع ما يخص البيت أقوم به وحدي؛ بل إن الأمر تطور لمحاولتي حل مشكلات أصدقائك!
توقع زواج الصديق بزوجته من بعد؛ ولكن الأمر لم يحدث فضلاً عن إصرار الأخيرة على الانفصال التام وترك المنزل، وبعد حين فهم؛ لقد كان صديقه يأتي ليشكو لزوجته من آلام إهمال زوجته، ورغم اختلاف تفاصيل الخلاف، فإن زوجته “هو” رأت أنها تعاني من تفاصيل تؤدي في النهاية إلى نفس الآلام التي كانت تتناساها، لولا أن نكأ الجراح وفتحها صديق زوجها؛ وهكذا تجاوزت جراح صاحبنا؛ فبدلاً من ترك صديق عمره له تركته زوجته أيضاً؛ ومن بعدها راح يلوم نفسه بقسوة، فلو أنه أفسح صدره واستفاد من بعض وقته في الاستماع لشكوى صديقه فلربما تفهم معاناته واستطاع النصح له وحفظ بيتيهما من الضياع، وأيضاً علاقته بالصديق وبزوجته من قبلها، لكنه آثر الغياب عن بيته فيما هو حاضر فيه، وسمح لزوجته بتبادل كلمات مع صديقه تتجاوز عابر الترحيب بما أدى إلى ضياع أسرتيهما.
القصة الثالثة:
لم يفهم ماذا يريد منه أقرب الأصدقاء إذ اتصل به لائماً ومعاتباً على إهماله له وعدم رده على اتصالاته المتكررة، رغم أنه حرص عليها طوال أوقات مختلفة ومدد متفاوتة، فوعده بأن يتفرغ له خلال دقائق ويتصل به، فقط ينهي ما لديه من أعمال، فقال الصديق على البداهة:
– اعذرني، فإنني مشغول جداً!
وأغلق الخط وأرسل إليه رسالة يخبره فيها بأن العلاقة بينهما انقطعت إلى الأبد.
تفرغ للتفكير طويلاً فيما حدث، فوجد أنه قطع حبال الصداقة المتينة مع صديق خيِّر نادر، فلم يبق له لديه إلا خيط واهٍ شديد الضعف قطعه هو بنفسه في اتصالهما الأخير؛ لأنه بدلاً من الاعتذار عما سبق والتفرغ للاستماع إليه في فرصته الأخيرة لإنقاذ الصداقة، تمادى وتسرع فطلب دقائق لإنهاء عمل رآه مهماً ونسي أنه ينهي الصداقة كلها.