تعد قضية الدين العام من أهم القضايا التي لها تأثير مباشر على اقتصاديات الدول، ومستوى معيشة أبنائها، ومستقبل الأجيال الحالية والقادمة فيها؛ فهي تتطلب توفير الموارد الحكومية اللازمة لذلك من ميزانيتها، ومن ثم فإنها تشكل جزءاً مهماً من إدارة الدين الحكومي، والموازنة العامة، وإدارة الاحتياطي من النقد الأجنبي.
وإذا كان العالم عرف استعباد الرقيق في الماضي، فإن استعباد الرقاب الآن أصبح من خلال حلقة الديون الخبيثة التي تستعبد الدول وثرواتها وأبناءها، وتمارس مؤسسات التمويل الدولية من صندوق النقد والبنك الدوليين دور السيد لاستعباد الدول لا سيما النامية وفق نظام شيطاني تسيطر عليه الدول الكبرى التي تحرك هذه السياسات، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
الدين العام يؤدي لتحويل أموال القطاع الخاص المعدّة للتشغيل إلى القطاع العام فيتم تبديدها بنفقات عامة
مفهوم الدين العام:
يمثل الدين العام مصدراً من مصادر الإيرادات العامة، تلجأ إليه الدولة لتمويل نفقاتها العامة، عندما تعجز عن توفير إيرادات أخرى ولا سيما من الضرائب، فتقترض إما من الأفراد أو من هيئات محلية أو دولية أو دول أجنبية.
وفكرة «الدين العام» بمفهومه المعاصر تعتبر حديثة نسبياً، تعود إلى بداية القرن الثامن عشر تقريباً، حيث ظهرت نتيجة لتطور المجتمع وحصول السلطات التشريعية الممثلة للشعب على حقها الكامل في فرض الضرائب من جهة، واللجوء إلى الدين العام من جهة أخرى.
وقد اتخذت المدرسة التقليدية (الكلاسيكية) في غالبية منظريها موقفاً عدائياً من سياسة التجاء الدولة إلى الدين العام، وطالبت بضرورة تعادل الموازنة العامة للدولة سنوياً، حيث ترى أن الدين العام يؤدي إلى تحويل أموال القطاع الخاص التي كانت معدّة للتشغيل (التوظيف) في مشروعات إنتاجية إلى القطاع العام فيتم تبديدها في نفقات عامة غير منتجة، كما أن الدين العام يؤدي إلى رفع سعر الفائدة؛ الأمر الذي يعمل على عرقلة النشاط الاقتصادي وسوء توزيع الموارد الاقتصادية ويقف عقبة في طريق التقدم الاقتصادي، فضلاً على أن خدمة الدين العام تؤدي إلى زيادة العبء الضريبي، وكذلك التضخم، فقد تعمد الدولة –أحياناً- إلى تسديد التزاماتها عن طريق الإصدار النقدي.
وحينما ظهرت المدرسة «الكينزية»(1) بعد أزمة الكساد العظيم في العام 1929م، وعجز المدرسة الكلاسيكية عن مواجهة التحديات الاقتصادية، انتقد “كينز” -ومن سار على نهجه من أنصار المدرسة النيوكلاسيكية- المدرسة التقليدية ولا سيما في صيغة الإطلاق والتعميم التي استخدمتها في طرح آرائها، وأكد أهمية الدين العام في الاقتصاد الوطني باعتباره من الوسائل المالية الثلاث المهمة في يد الدولة، وهي: النفقات العامة، والضرائب، والدين العام؛ إذ يمكنها عن طريقها أن تتدخل وتوجه الاقتصاد وتعمل على تحقيق أهداف المجتمع الاقتصادية في التنمية والاستقرار والعمالة (التشغيل أو التوظيف الكامل)؛ فالدين العام يجب أن يزداد كي يمتص أي قوة شرائية زائدة أو أي أموال عاطلة، وليقلل السيولة في أوقات الرواج، ويجب أن يرد الدين العام أو يسدد الجزء الأكبر منه في أوقات الكساد لزيادة السيولة في الاقتصاد الوطني.
وفي بداية السبعينيات، أدت الأزمة المالية إلى انهيار العلاقة العكسية بين التضخم والبطالة، التي آمن بها “الكينزيون”، ومن ثم تراجعت الأفكار “الكينزية” أمام تلك التحديات الجديدة، وحل محلها المدرسة النقدية أو مدرسة شيكاغو التي انتقدت دور المدرسة “الكينزية” في تنامي حجم الدين العام، ونادت بمعالجة العجز المتراكم في الموازنة من خلال تخفيض النفقات العامة ذات الطابع الاجتماعي، وقد تم صياغة برامج الإصلاح الاقتصادي على الرؤية النقدية تجاه القروض العامة، وهذه المدرسة في الحقيقة جعلت جل همها التخلص من دور الدولة الاجتماعي، وربطت التخلص من عجز الموازنة بالتخلص من المزايا الاجتماعية للدولة.
والدين العام قد يكون محلياً أو خارجياً، والدين العام المحلي يعني المبالغ التي تحصل عليه الدولة من الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين المقيمين في إقليمها بغض النظر عن جنسياتهم سواء كانوا مواطنين أم أجانب، ويعرف الدين العام المحلي في علم المالية العامة بالقروض العامة المحلية.
أما الدين العام الخارجي فهو الدين الذي تحصل عليه الدولة من دولة أجنبية أو من شخص طبيعي أو اعتباري مقيم في الخارج أو من هيئة حكومية أو صندوق حكومي أو دولي أو منظمة دولية في الخارج، وقد عرف البنك الدولي إجمالي الدين الخارجي بأنه مبلغ الديون المستحقة لغير المقيمين في الدولة والقابلة للسداد بالعملة الصعبة أو من خلال سلع أو خدمات.
وهذا التعريف يعد مفهوماً شاملاً للدين العام الخارجي، ممثلاً في الالتزامات المالية الخارجية للدولة؛ فالدين الخارجي هو ذلك الجزء من الدين الكلي في البلاد الذي يُستحق للدائنين خارج البلاد، وقد أصبح الدين الخارجي وسيلة الاستعباد الحاكمة للكبار للإمساك برقاب الصغار.
الدين الخارجي أصبح وسيلة الاستعباد الحاكمة للكبار للإمساك برقاب الصغار
صندوق النقد الدولي استعباد لصالح الأغنياء:
اجتمع أعضاء وفود 44 بلداً في بريتون وودز بولاية نيوهامبشير بالولايات المتحدة الأمريكية، في يوليو 1944م، لإنشاء مؤسستين تحكمان العلاقات الاقتصادية الدولية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكان تركيزهم منصباً على تجنب تكرار الإخفاقات التي مني بها مؤتمر باريس للسلام الذي وضع نهاية للحرب العالمية الأولى، وقرروا تأسيس بنك دولي للإنشاء والتعمير من شأنه العمل على استعادة النشاط الاقتصادي، وإقامة صندوق نقد دولي من شأنه المساعدة في استعادة قابلية تحويل العملات والنشاط التجاري متعدد الأطراف.
وهذا الاجتماع كان يقوده الدول الكبار، وتولد عنه صندوق النقد الدولي الذي يقوده الكبار من خلال قاعدة «صوت مقابل دولار»، وحق «الفيتو» فيه للولايات المتحدة باعتبارها أكبر مساهمة فيه، وقد تغيرت سياسة الصندوق وفقاً لمنطق القوة فيه لا قوة المنطق من خلال مروره بـ4 مراحل، هي:
الأولى: مرحلة الخمسينيات والستينيات: وتم فيها تمكين الدولار، حيث تم وفق بريتون وودز تحويل الدولار لعملة تسوية دولية مغطاة بالذهب، وكان أوقية الذهب تساوي 32 دولاراً.
الثانية: مرحلة الستينيات والسبعينيات: وتم فيها تمكين الدولار بدون غطاء ذهبي وفق قرارات الرئيس الأمريكي «نيكسون»، في عام 1971م، وما نتج بعد ذلك من غطاء الدولار بالبترول (بترو دولار).
الثالثة: مرحلة التسعينيات والألفية الجديدة: وشهدت انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك الكتلة الشرقية، وكان للصندوق دور كبير في هذا التفتت.
الرابعة: بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008م حتى وقتنا الحالي، وفيها رسخ الصندوق للتقشف المالي.
ومن التواريخ المهمة في حياة الصندوق أبريل 1978م، حيث وضع الصندوق في لوائحه مصطلحات جديدة، مثل:
– «المساندة المالية»؛ أي منح القروض.
– «المساعدة الفنية»؛ أي التأثير في القرارات المتعلقة ببنية البنك المركزي ووزارة الاقتصاد ونحوها من خلال تولي تلك المناصب أفراد لهم صلة بالصندوق أو يتبنون الليبرالية الحديثة.
– «المراقبة»؛ حيث صار الصندوق أكثر تدخلاً في سيادة الدول المدينة باسم الوفاء بمتطلبات الحوكمة والإصلاح القضائي والمالي.
كما يعد العام 1979م من الأعوام المهمة كذلك في تاريخ الصندوق، حيث عرض الصندوق على العالم (برامج التكيف الهيكلي)، باعتبارها أداة ستكون سارية المفعول بصفة عامة، ومؤشراً يسير بنحو بيِّن إلى الاتجاه الذي سيسلكه الصندوق مستقبلاً، وذلك من خلال مبدأ المشروطية وما يتضمنه من المصطلحات الأربعة: ليبرالية، تحرير، استقرار، خصخصة، وقد خضعت الدول لبرامج التكيف الهيكلي وذلك لإعادة هيكلة اقتصاداتها وفقاً للمبادئ التوجيهية لصندوق النقد الدولي/ البنك الدولي، ومن ثم لجأت للاقتراض طمعاً في الحصول على شهادة الجدارة الائتمانية وألبسها الصندوق لباس ترقيع الديون.
وقد ارتكز تنفيذ برامج التكيف الهيكلي على شرط أساسي؛ هو أن البلدان المَدِينة عليها سداد ديونها بالعملة الصعبة، وهذا يؤدي إلى اتباع سياسة التوجه نحو التصدير وإهمال السلع الضرورية للمجتمع المحلي للحصول على العملة الصعبة لسداد ديونها.
وبناء على ذلك، فرضت برامج التكيف الهيكلي تدابير كشرط للحصول على قروض جديدة ممثلة في:
1- خفض العجز الحكومي من خلال التخفيضات في الإنفاق العام (برامج استرداد التكاليف من المستهلك).
2- رفع أسعار الفائدة بغية الحد من حجم الائتمان الداخلي.
3- تحرير قواعد الصرف الأجنبي وتحرير التجارة (رفع القيود على الواردات السلعية).
4- ترشيد وخصخصة الشركات العامة وشبه الحكومية.
5- تحرير الاقتصاد، على سبيل المثال:
– تحرير أنظمة الاستثمار الأجنبي.
– تحرير سوق العمل، على سبيل المثال، «مرونة» الأجور (تخفيض أجور العمال لكي يصبح البلد تنافسياً ويجذب المستثمرين).
– رفع الرقابة على الأسعار وإلغاء دعم المواد الغذائية.
– التحول من الاستيراد لدعم التنمية إلى تصدير السلع والمواد الأولية.
وشروط الصندوق المجحفة (مبدأ المشروطية) التي ارتبطت ببرنامج التكيف الهيكلي لم تتوقف على مدة السداد ومعدل الفائدة، بل اتجهت إلى شروط أخرى، مثل: إصدار خطاب نوايا من الدولة طالبة الصندوق تعرب فيه عن التزامها بتحقيق أهداف كمية محددة فيما يتعلق بسلامة المركز الخارجي والاستقرار المالي والنقدي والنمو القابل للاستمرار وكأنه هو الذي اقترح على الصندوق الإجراءات، وكذلك صرف التمويل على مراحل، إضافة إلى اعتبار الاتفاق مع الصندوق ليس اتفاقية دولية ومن ثم فلا تحتاج لمصادقة البرلمانات، فضلاً عن سرية الاتفاقيات، واعتبار التمويل شهادة حسن سلوك من الصندوق يتيح للدولة الاقتراض؛ فبناء على ذلك يشهد الصندوق أن الدولة جديرة بالاقتراض.
وبذلك ورط الصندوق الدول النامية في مديونيات بعيداً عن رقابة البرلمان، وأصبحت شهادة حسن السلوك من الصندوق شهادة لتوريط البلدان في الديون وترقيعها بالحصول على ديون لسدادها، وكان من نتيجة ذلك أن تحولت روشتة الصندوق إلى تقشف وفقر وبطالة وتبعية، حتى يمكن القول: إنه صندوق للأغنياء ويحارب الفقراء وليس الفقر.
الخروج من نفق الديون:
إن علاج أزمة الدين العام الخارجي والتخلص من استعباد مؤسسات التمويل الدولية مرتبط بوجود إرادة سياسية وطنية وإدارة رشيدة تغلق أبواب الفساد، مع اتخاذ خطوات عملية من خلال ما يلي:
1- الاعتراف بأزمة الدين العام، وصدماتها المالية المتوقعة، ووضع أهداف واضحة لإدارة الدين العام، وتقدير حجم المخاطر في ضوء اعتبارات التكلفة، والفصل بين إدارة الدين والإدارة النقدية من حيث الأهداف، ومناط المساءلة مع التنسيق بينهما، ووضع حدود للتوسع في الاقتراض، وتوخي الحرص في إدارة مخاطر إعادة التمويل ومخاطر السوق وتكلفة فوائد أعباء الديون، وضرورة إقامة هيكل مؤسسي سليم وسياسات قوية للحد من المخاطر التشغيلية، بما في ذلك تفويض المسؤوليات بشكل واضح للجهات الحكومية القائمة على إدارة الدين وتحديد مناط المساءلة عنها.
2- العلاج الهيكلي للاقتصاد بتعديل بنيته الاقتصادية نحو الاهتمام بالصناعات التحويلية، وتفعيل عمل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والإحلال محل الواردات وزيادة الصادرات، بما يخفف من العجز المزمن في الموازنة العامة للدولة، والميزان التجاري وميزان المدفوعات.
3- وضع سياسة فعالة ورشيدة للتمويل الخارجي تستهدف وضع حد لنمو الديون يكون المعيار فيها هو تحقيق تنمية فعلية من خلال استخدامها في مشروعات تجمع بين العوائد الاقتصادية والاجتماعية الملائمة مع اختيار أفضل الشروط المقدمة للاقتراض وتنويع مصادره.
4- تشجيع التعاون الاقتصادي بين الدول النامية بما ينمي من الصادرات وفقاً للمزايا النسبية لكل دولة بما يصب في صالح ميزان المدفوعات، والاستفادة قدر الإمكان من خلال التكتلات الاقتصادية، وتطبيق نظام ترتيبات الدفع الثنائي والمتعدد بين هذه الدول من أجل خفض الاعتماد على العملات الأجنبية لتمويل التجارة.
الصكوك الإسلامية أحد الحلول حيث تتميز بتوجيه الأموال نحو استثمارات حقيقية وفقاً لأولويات المجتمع
5- إغلاق أبواب الفساد، سواء أكان فساداً إدارياً أم اقتصادياً أم تشريعياً، ومحاربة السفه الحكومي في الإنفاق، وذلك بتعديل القوانين التي تفتح الباب على مصراعيه للفساد وتحمل الموازنة ما لا قبل لها بها.
وإلى جانب ذلك، تبدو أهمية توجه الدول الإسلامية -للتخلص من عبء الديون- نحو استخدام الصكوك الإسلامية كمصدر من مصادر التمويل لما تتميز به من توجيه الأموال نحو استثمارات حقيقية وفقاً لأولويات المجتمع، فضلاً عن إنشاء صندوقين للزكاة والوقف يتسمان بالفعالية، فيمكنهما تخفيض عجز الموازنة بطريقة غير مباشرة من خلال توفير الآلات والمعدات والأجهزة التي تحتاجها الدولة لا سيما في المؤسسات الخدمية كالمدارس والمستشفيات، مع البعد كل البعد عن الوقوع في مصيدة القروض الربوية التي يؤول عائدها في النهاية للمقرض ولا ينال المقترض سوى لباس الاستعباد.
_________________________________________________
(1) هي مدرسة رائدها الاقتصادي الإنجليزي «كينز» بعد أزمة الكساد العظيم عام 1929م، حيث طالب «كينز» بإدخال الدولة وتشجيعها للإنفاق، وقد كانت مدرسته سبباً في الخروج من أزمة الكساد.