“فوائد البنوك ودفاتر التوفير من الأمور المختلف في تصويرها وتكييفها بين العلماء المعاصرين، والذي استقرت عليه الفتوى أن الإيداع في البنوك ودفاتر التوفير ونحوها، هو من باب عقود التمويل المستحدثة، لا القروض التي تجر النفع المحرم ولا علاقة لها بالربا، والذي عليه التحقيق والعمل جواز استحداث عقود جديدة إذا خلت من الغرر والضرر، وهذا ما جرى عليه قانون البنوك، وحكم الحاكم يرفع الخلاف فليست الأرباح حراماً لأنها ليست فوائد قروض وإنما هي عبارة عن أرباح تمويلية ناتجة عن عقود تحقق مصالح أطرافها؛ ولذلك يجوز أخذها شرعاً”.
هذه فتوى دار الإفتاء في إحدى الدولة العربية؛ وللوقوف على بطلان هذه الفتوى ومخالفتها ما أجمع عليه جمهور العلماء، نستعرض طرفاً من أقوال العلماء حول عمل المصارف والبنوك؛ حتى نكون على بينة من أمرنا على النحو التالي:
المصارف والبنوك:
المصارف: مؤسسة يودع الناس فيها أموالهم وتستخدم المصارف هذه الأموال المودعة في استثماراتها.
نشأة المصارف والبنوك:
الخدمات المصرفية قديمة قدم الحضارة الإنسانية، فقد كان في الحضارة الرومانية نظام مصرفي أسهم في توسيع الحركة التجارية فيها وهو يلبي الحاجة آنذاك، أما النظام المصرفي الحديث فقد بدأ نموه في إيطاليا خلال الفترة بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر الميلادي، ونشأت شركات مصرفية في عدد من المدن الإيطالية مثل روما والبندقية، ومنها انتشرت الخدمات المصرفية في أوروبا، ومنذ السبعينيات من القرن العشرين أصبحت المصارف تؤدي دورًا عالميًا أكبر على مستوى الأفراد والشركات والدول.
أسباب إقامة المصارف والبنوك:
1- إيداع النقود في المصارف آمن لها من بقائها في المنزل أو المؤسسة.
2- سهولة استخدام الحسابات الجارية لتسديد الفواتير الشخصية أو التجارية.
3- حصول بعض المودعين على فوائد ربوية عند إيداعهم أموالهم في المصارف.
4- تقديم القروض للراغبين من أفراد ومؤسسات أو شركات بل وحكومات.
5- يُسر انتقال الأموال داخل الوطن وخارجه دون مشقة أو خوف.
الأعمال المصرفية التي تقدمها المصارف (البنوك):
أولًا: أعمال خدمية يقدمها المصرف للعملاء بأجر ولا تدخلها الفوائد، وهي:
1- قبول الودائع الجارية (حساب تحت الطلب)، ويحفظها لأصحابها مقابل أجر معين إذا كانت المبالغ قليلة، ودون مقابل إذا كانت الودائع مبالغ تزيد على الحد الأدنى الذي حدده البنك.
2- توفير وسائل الدفع من شيكات وغيرها، بحيث يتم صرفها من حساب العميل بمجرد اطلاع البنك عليها.
3- إصدار خطابات الضمان.
4- بيع العملات وشراؤها.
5- القيام بإجراء الحوالات المالية داخل البلد وخارجه.
ثانياً: منح القروض:
وذلك بأن يقدم المصرف للأفراد أو الشركات أو الدول مبالغ مالية يسددها وفق الاتفاق الموقع عليه مع زيادة نسبة معينة يتم الاتفاق عليها في العقد، كذلك المصرف يقبل الودائع عنده مقابل دفع فوائد معينة للمودع يتم الاتفاق عليها في العقد، كما أن المصرف يقوم بالإقراض في حال تقديم الاعتماد المصرفي أو خصم الأوراق التجارية مقابل فوائد محددة.
الحكم الشرعي لأعمال المصارف (البنوك):
إن التعامل مع المصارف بالأعمال الخدمية التي يقدمها المصرف التي جاء ذكرها في البند الأول جائزة شرعًا بشروط:
1- ألا يتم فيها دفع الفوائد من البنك أو العميل.
2- إن ما يأخذه البنك إنما هو أجرة على عمله كما في خطاب الضمان والحوالات، ويجب تحديده بقدر العمل الذي يؤديه البنك ولا يكون نسبة مئوية تزيد وتقل حسب المبلغ المطلوب الضمان فيه.
3- أن يكون بيع العملات وشراؤها متفقًا مع ما جاء في أحكام الصرف في الشريعة الإِسلامية من حيث التماثل في العملة الواحدة وتمام القبض حالًا إذا اختلفت العملات.
وقد تطرق مجمع الفقه الإِسلامي بجدة في قراره رقم (86) (3/ 9) إلى أعمال البنوك وما يجوز منها وما لا يجوز منها، كما أجاز مجمع البحوث الإِسلامية بالقاهرة في عام 1385هـ أعمال البنوك من حسابات جارية وصرف الشيكات وخطابات الاعتماد والكمبيالات الداخلية التي يقوم عليها العمل بين التجار والبنوك في الداخل، وأن ما يؤخذ من مال نظير هذه الأعمال ليس من الربا.
كما صدرت الفتوى رقم (222) من اللجنة الدائمة في السعودية بجواز الإيداع في البنوك التي تتعامل بالربا لكن بدون فائدة بشرط أن يخاف عليها من الضياع بسرقة أو نصب ونحوها.
أما التعامل مع المصرف (البنك) وفقًا لما جاء في البند “ثانيًا” وهو منح القروض أو قبول الودائع بفائدة أو تقديم الاعتماد للمصرف وخصم الأوراق التجارية مقابل فوائد، فإن ذلك غير جائز شرعًا، لأنه من الربا وهو محرم، جاء في قرار مجمع البحوث الإِسلامية بالقاهرة عام 1385هـ.
“الفائدة على أنواع القروض كلها محرمة لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي، لأن نصوص الكتاب والسُّنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين”.
وجاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي بجدة رقم (10) (10/ 2) أن كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حل أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة أو الفائدة على القرض منذ بداية العقد، هاتان الصورتان ربا محرم شرعًا.
فينبغي للمسلم أن يحرص على أن يكون تعامله موافقًا للشريعة الإِسلامية، وأن يبتعد عن الربا، لأن الله حرمه؛ كما ينبغي عليه أن يتعامل مع المصارف التي تلتزم بأحكام الشريعة الإِسلامية حيث إنها لا تقبل التعامل بالربا أخذًا أو إعطاء.
وبدلًا من إيداع الأموال لأجل أو حسابات التوفير مقابل فائدة معينة، فإن للمسلم إيداع ما توفر لديه عن طريق المضاربة وهي الاشتراك في الربح وتحمل الخسارة، وهو معمول به في بعض المصارف التي تلتزم بالأحكام الشرعية في أعمالها(1).
أخد الفوائد والاستثمار في المصارف:
تعطي البنوك فوائد بنسبة معينة على الأموال المودعة لديها إذا رغب المودع ذلك، ويتم الاتفاق على المدة والنسبة والشروط، كما أنها تقدم أموالًا إلى الراغبين في الاقتراض بشروط محددة ونسبة يتفق عليها الطرفان، وقد تم دراسة ذلك من قبل المجامع الفقهية الإِسلامية، فجاء عن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإِسلامي في دورته الثانية بجدة في 10/ 6/ 1406هـ: “إن كل زيادة (فائدة) على الدَّين الذي حل أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (الفائدة) على القرض منذ بداية العقد هاتان الصورتان ربا محرم”.
كما أصدر مجمع البحوث الإِسلامي بالقاهرة والمؤتمر العلمي للاقتصاد الإِسلامي بمكة المكرمة ومؤتمر الفقه الإِسلامي بالرياض فتاوى بأن الفوائد هي الربا المحرم.
وكذلك أفتى كثير من علماء المسلمين في هذا العصر بأن الفوائد البنكية محرمة، وأنها عين الربا، ومنهم أصحاب السماحة: الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبدالله بن محمَّد بن حميد، والشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ أبو الأعلى المودودي وغيرهم(2).
وقد سئل فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله السؤال التالي: ما قولكم فيما أفتى به بعض المتأخرين من حِل الفوائد البنكية الربوية الحاصلة من طريق الاستثمار، أو صناديق التوفير؛ لأن هذا الأمر قد عمت به البلوى، واغتر بهذه الفتوى كثير من الناس؟
فقال: هذه الفتوى التي صدرت من إخواننا المتأخرين فتوى باطلة، نسأل الله أن يعفو عنهم، وأن يرشدهم إلى الصواب، وأن يمن عليهم بالرجوع إلى الحق، ولا شك أن الرجوع إلى الحق فضيلة، وهو خير من التمادي في الخطأ، وقد أجمع أهل العلم فيما نعلم، قبل هذه الفتوى، الأخيرة، على تحريم الربا مطلقًا سواء كان للاستثمار، أو للاستهلاك، فلا يجوز أن يبيع مائة بمائة وخمسة، من طريق الاستثمار، ولا من طريق صندوق التوفير، ولا أن يضعها وديعة في البنك يعطيه عنها عن كل مائة مائة وخمسة، وعن كل ألف ألف وخمسين، أو ما أشبه ذلك، كل هذا منكر، وربا صريح، وهو ربا الجاهلية، وليس من شرط ذلك أن يكون من تؤخذ منه الزيادة مدينًا معسرًا، فالمعسر يكون أشد إثمًا إذا زاد عليه وأمهله بشرط الربا، أو طالبه بالزيادة، هذا يكون أشد إثمًا، ولكن ليس ذلك شرطًا في تحريم الربا أن يكون بالمراباة معه معسرًا، أو مدينًا، بل هو عام، فإقراضك أخاك بالزيادة سواء كان فقيرًا، أو غنيًا ربا، فإذا أقرضته ألفًا على أن يرد عليك ألفًا ومائة، أو ألفًا وخمسين أو ألفًا وخمسة هذا ربا، وقد ذكر غير واحد إجماع العلماء على ذلك، وهكذا إذا جعلتها وديعة في البنك على أن يعطيك كل سنة كذا، أو كل شهر كذا، من الربا، هذا محرم بلا شك، والذي أفتى بحله قد غلط غلطًا بينًا، وخالف الأدلة الشرعية، وإجماع أهل العلم المعروف، فنسأل الله أن يهدي الجميع، وأن يرد من أفتى بالباطل إلى الصواب والحق، وأن يصلح حال الجميع، وأن يعيذنا من غلطات ألسنتنا، وغلطات أفكارنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله (3).
وإذا حدثت فوائد من الودائع أو الاستثمار بفائدة فإنه لا يجوز للمسلم أخذها بقصد تملكها، ولكن يتم توزيعها على الفقراء وفي وجوه الإحسان الأخرى، ويرى بعض العلماء أنها تُصرف في الأمور الممتهنة كدورات المياه العامة والجسور والأنفاق ورصف الطرق ونحوها.
____________________________________
(1) الموسوعة العربية العالمية (23/ 363)، والجامع في فقه النوازل، د. صالح بن حميد (ص: 91)، وانظر قرار مجمع الفقه الإِسلامي بجدة رقم 86 (3/ 9).
(2) توضيح الأحكام شرح بلوغ المرام لابن بسام (4/ 375). قرار المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإِسلامي بالأزهر (ص: 401)، وأبحاث هيئة كبار العلماء، وانظر فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية رقم (4047) رقم (222).
(3) فتاوى نور على الدرب – المؤلف: عبد العزيز بن عبدالله بن باز (المتوفى: 1420هـ)
جمعها: د. محمد بن سعد الشويعر – قدم لها: عبد العزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ 236/19.