إن ربنا تعالى مستحق للتوحيد لكمال ذاته، ومن كمال ذاته كملت أفعاله، ومن كمال أفعاله أن بسط عدله على جميع خلقه؛ من آمن منهم ومن كفر، من أطاع ومن عصى.
وقد جمع سبحانه التوحيد والعدل في آية واحدة فقال: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران: 18).
قال ابن القيم: “إن الشرك أظلم الظلم، كما أن أعدل العدل التوحيد؛ فالعدل قرين التوحيد، والظلم قرين الشرك، ولهذا يجمع سبحانه بينهما”(1).
العدل من قيومية الله فلم يحرم كافراً من رزق مكتوب له ولن يترك ظالماً دون قصاص منه
والعدل من قيومية الله على خلقه؛ فلم يحرم كافراً من رزق مكتوب له، ولن يترك ظالماً دون أن يقتص منه للمظلوم من كل المخلوقات، ومن كمال عدله إرساله الرسل والكتب لإقامة العدل بين الناس؛ قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25).
فلولا الرسل ومن بعدهم الكتب التي جاؤوا بها لبلغ انحراف البشرية إلى ما دون المجتمعات الحيوانية، بل لكانت المقارنة بينهم وبين المجتمعات الحيوانية ظلماً لها؛ إذ إنها محكومة بالتوازنات السننية؛ فجاء الدين بالعدل ليقوِّم الانحراف والاعوجاج، قال ابن القيم: “إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي به قامت السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهه بأي طريقٍ كان فثمَّ شرع الله ودينه، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وعلاماته في شيء ونفى غيرها من الطرق التي هي مثلها أو أقوى منها، بل بيَّن ما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استُخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، لا يقال: إنها مخالفة له، فلا نقول: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسةً تبعاً لمصطلحكم، وإنما هي شرعٌ حق”(2).
لولا الرسل ومن بعدهم الكتب التي جاؤوا بها لبلغ انحراف البشرية إلى ما دون المجتمعات الحيوانية
صلاح الدنيا والآخرة
وإن ارتبط العدل بالدين صلح أمر الدنيا والآخرة، وإن بقي العدل وانزوى الدين أو انحرف فقد ينصلح أمر الدنيا، وإن وُجد الدين وانحرف ميزان العدل فقد ينصلح أمر الآخرة، ويفسد أمر الدنيا.
قال الماوردي: “اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة ستة أشياء هي قواعدها وإن تفرعت، وهي: دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح”(3).
والله يحب المقسطين الذين قوَّمهم الدين فهُدوا إلى الصلاح في أنفسهم وإصلاح غيرهم، قال تعالى: (فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة: 42).
وأي فضل ومزية لهؤلاء المقسطين الذين صرَّح الله بحبهم!
وهؤلاء المقسطون بما أنهم التزموا بأمر الله، وحققوا العدل في أنفسهم، ونشروه بين الخلق، جعل الله لهم الأجر العظيم والثواب الجزيل يوم القيامة؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا”(4).
فهم كانوا قريبين من الله في الدنيا بعدلهم، فقربهم منه في الآخرة، وأعلا بين الخلق منزلتهم.
العدل مطالب به كل إنسان علا شأنه أم سفل ويكون مع المخالف الشانئ كما هو مع الموافق المحب
والعدل مطالب به كل إنسان علا شأنه أم سفل، حتى قيل: العادل هو “الَّذِي يَتَّبِعُ أَمْر اللَّه بِوَضْعِ كُلِّ شَيْء فِي مَوْضِعه مِنْ غَيْر إِفْرَاط وَلاَ تَفْرِيط”(5).
والعدل يكون مع المخالف كما هو مع الموافق، مع الشانئ كما هو مع المحب، مع العدو كما هو مع الولي، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8).
ويأتي على رأس العادلين الإمام العادل الذي أمن الناس تحت حكمه، هذا الإمام جزاؤه أن يكون في ظل الله يوم القيامة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ..”(6).
وروي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن أرفع الناس درجة يوم القيامة الإمام العادل، وإن أوضع الناس درجة يوم القيامة الإمام الذي ليس بعادل”(7).
وأجره ليس في الآخرة فحسب، بل جعل الله له في الدنيا دعاء مستجاباً لا يُرد؛ “ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل..”(8).
القاضي العادل
بلغ من أهمية العدل للقاضي أن يوصي النبي صلى الله عليه وسلم القضاة بالعدل بين الخصوم لا في الحكم فحسب، بل في النظرة والإشارة؛ فقد روي أنه قال: “إذا ابتلي أحدكم بالقضاء بين المسلمين فلا يقض وهو غضبان، فليُسوِّ بينهم بالنظر والمجلس والإشارة، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين”(9).
لو تخلى القاضي العادل عن مكانه فسيأتي الفسدة والظلمة فتعم البلوى وتسوء الأحوال بالناس
والقاضي العادل لعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه لا يترك تلك المسؤولية مهما كانت الظروف والأحوال؛ فلو تخلى عن مكانه لجاء الفسدة والظلمة فعمت البلوى وساءت الأحوال بالناس؛ فقد “سُئِلَتْ عَائِشَةَ عَنْ الْقَاضِي الْعَادِلِ، إذَا اسْتَقْضَاهُ الأَمِيرُ الْبَاغِي، هَلْ يُجِيبُهُ؟ فَقَالَتْ: إنْ لَمْ يَقْضِ لَكُمْ خِيَارُكُمْ، قَضَى لَكُمْ شِرَارُكُمْ”(10).
وكان من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لمن يستوصيه أن يوصيه بالعدل؛ فعن كدير الضبي، أن رجلاً أعرابيًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني بعمل يقربني من الجنة، ويباعدني من النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أوَهُما أهمتاك؟”، قال: نعم، قال: “تقول العدل، وتعطي الفضل”(11).
وكانت آخر وصية أوصى بها عمر الفاروق وهو في سكرات الموت وصية عن العدل موجهة لقريش المنوط بها حكم المسلمين؛ قال المسور بن مخرمة: “سمعت عمر وإن أحد أصابعي في جرحه -هذه- وهو يقول: يا معشر قريش! إني لا أخاف الناس عليكم؛ إنما أخاف على الناس، وإني قد تركت فيكم اثنتين لم تبرحوا بخير ما لزمتموها: العدل في الحكم، والعدل في القسم، وإني قد تركتكم على مثل محرقة الغنم إلا أن يعوج قوم فيعوج بهم”(12).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(*) كاتبة جزائرية.
(1) الفوائد، لابن القيم، ص81.
(2) بدائع الفوائد، لابن قيم الجوزية، 3/674.
(3) أدب الدنيا والدين، للماوردي، ص133.
(4) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الإمارة، باب: فَضِيلَةِ الإِمَامِ الْعَادِلِ وَعُقُوبَةِ الْجَائِرِ وَالْحَثِّ عَلَى الرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ وَالنَّهْيِ عَنْ إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ، 3/1458، برقم (1827) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(5) فتح الباري، لابن حجر، 2/145.
(6) جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الأذان، باب: مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ، وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ، 1/133، برقم (660).
(7) أخرجه أبو يعلى في مسنده، 2/285، برقم (1003)، وضعف إسناده حسين سليم أسد.
(8) جزء من حديث أخرجه أحمد في مسند أبي هريرة، 3/410، برقم (8043)، وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح بطرقه وشواهده.
(9) أخرجه أبو يعلى في مسنده، 10/264، برقم (5867) من حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة، 5/219: ضعيف جداً.
(10) التلخيص الحبير، لابن حجر، 4/343.
(11) جزء من حديث أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، 19/187، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 3/323: رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح، وقال الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب، 1/142: ضعيف مرسل.
(12) التلخيص الحبير، لابن حجر، 4/343.