محمد عبد الرحمن صادق (*)
من المعروف أن الدين الإسلامي يعتني في المقام الأول بمشاعر الإنسان بصفة عامة، والإنسان المسلم بصفة خاصة؛ فالإنسان بسلوكه وتصرفاته وردود أفعاله عبارة عن كتلة متحركة من المشاعر.
ومن المعروف أيضاً أن الإنسان بفطرته يأنس للثناء الحسن والتشجيع ويأنف كثرة النقد والعتاب واللوم والسخرية.
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: “قيل لرسولِ اللهِ ﷺ: أرأيتَ الرجلَ يعملُ العملَ من الخيرِ، ويحمدُه الناسُ عليه؟” قال: “تلك عاجلُ بُشرى المؤمنِ”. وفي روايةٍ: ويحبُّه الناسُ عليه. وفي رواية: ويحمَدُه الناسُ” (رواه مسلم) .
بين يدي الموضوع
الواقع يقول بأن من يستحق المحبة الصادقة في الله عملة نادرة تستحق أن نفتخر بها، وكنز ثمين يستحق المحافظة عليه، بل نعمة ربانية كبيرة تستحق الشكر.
كيف بك لو أنعم الله تعالى عليك بمعرفة شخص تتوفر فيه الصفات التالية أو بعضها، (سليم العقيدة، صحيح العبادة، متين الخلق، صادق الحديث، صافي القلب، عف اللسان، صادق النصيحة، يأسره المعروف ولا يُنكره، إذا غبت تفقد حالك وإذا حضرت انشرح صدره بلقائك … الخ)!!
ألا يستحق إنسان بهذه الصفات أن تصارحه بحبك له وتعلنها له في كل مناسبة وبدون مناسبة قائلاً له منفرداً بينك وبينه أو على الملأ بين جمع من الناس “إني أحبك في الله“!!
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “إذا أحبَّ أحدُكم صاحبَه فلْيأتِه في منزلِه فلْيُخبرْه أنه يُحبُّه للهِ عزَّ وجلَّ” (رواه أحمد).
وعن مجاهد بن جبر المكي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “إذا أحبَّ أحدُكم أخاه في اللهِ فلْيُعلِمْهُ، فإنَّهُ أبْقَى في الأُلْفةِ، وأثْبَتُ في المَوَدَّةِ” (السلسلة الصحيحة).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه “أنَّ رجلًا كان عند النبيِّ ﷺ، فمر به رجلٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ! إني لأحبّ هذا. فقال له النبيُّ ﷺ: أعلمتَه؟ قال: لا! قال: أعلِمه. قال: فلحقه، فقال: إني أحبُّك في اللهِ، فقال: أحبَّك الذي أحببتَني له” (رواه أبو داود).
إن ديننا هو دين المشاعر ولا يعرف الجمود ولا يرضى به، فإذا وجدت ضالتك، ورزقك الله تعالى بمن يستحق المحبة الصادقة في الله فأغدق عليه من حبك، واعترف له بصادق مشاعرك، ولا تبخل بذلك ولا تمل منه، ولا تتعامل مع هذا الأمر على أنه من البديهيات التي لا تحتاج مُصارحة ولا تحتاج إلى أن تبوح بها، واستشعر في كل مرة وصية النبي ﷺ (أعلِمه)!
ولا يفوتنا أن نقول بأن من بين الأمور التي تؤلف القلوب وتؤجج المشاعر إغاثة الملهوف، والشكر على المعروف، وتلبية الدعوة، والدعاء بظاهر الغيب.
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: “منِ استعاذَكم باللهِ فأعيذوه، ومن سألكمْ باللهِ فأعطوهُ ومن دعاكمْ فأجيبوهُ ومن أتى إليكم معروفًا فكافِئوه فإن لم تجدوا فادعوا لهُ حتى تعلموا أن قد كافأتموهُ ” (رواه أبو داود).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “مَن لا يشكرُ النَّاسَ لا يشكرُ اللهَ” (رواه الترمذي).
أولاً: النبي ﷺ يثني خيراً على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
إن الثناء الحسن من الأمور التي تُسَرُّ بها النفوس، وتشجعها على البذل والعطاء.
إن الثناء الحسن يحتاجه رب الأسرة مع أسرته، والمعلم مع تلاميذه، والداعية مع مدعويه، والرئيس مع مرؤوسيه.
إن الثناء الحسن وسيلة تربوية اتبعها الرسول ﷺ مع أهل بيته ومع صحابته رضوان الله عليهم أجمعين فجعل منهم جيلاً فريداً لا يجود الزمان بمثله إلى يوم القيامة.
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه “قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ ﷺ أيُّ النَّاسِ أحَبُّ إليكَ؟ قال: (عائشةُ) فقُلْتُ: إنِّي لَسْتُ أعني النِّساءَ إنَّما أعني الرِّجالَ فقال: (أبو بكر) أو قال: (أبوها)” (صحيح ابن حبان).
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: “فضلُ عائشةَ على النِّساءِ كفضلِ الثَّريدِ على سائرِ الطَّعامِ” (صحيح ابن حبان).
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: “اللهمَّ اغفرْ لعائشةَ ما تَقَدَّمَ من ذَنبِهِا وما تَأَخَّرَ، وما أَسَرَّتْ وما أَعْلَنَتْ، وقال: واللهِ إِنَّها لَدَعْوَتِي لأُمَّتي في كلِّ صَلاةٍ” (رواه ابن حبان والبزّار).
ثانياً: الثناء الحسن مطلوب حتى بعد الموت:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “مُرَّ بجَنازةٍ فأثنى عليها خَيرًا، فقالَ النَّبيُّ ﷺ: وجبَت، ومُرَّ بجَنازةٍ أخرى فأُثْنيَ علَيها شرًّا، فقالَ النَّبيُّ ﷺ: وجبَت، فقالَ عمرُ: فداكَ أبي وأمِّي، مرَّ بجَنازةٍ فأُثْنيَ عليها خيرًا، فقُلتَ: وجبَت، ومرَّ بجَنازةٍ فأُثْنيَ علَيها شرًّا، فقلتَ: وجبَت، فقالَ: مَن أثنيتُمْ علَيهِ خيرًا وجبت لَهُ الجنَّةُ، ومَن أثنيتُمْ علَيهِ شرًّا وجبت لَهُ النَّارُ، أنتُمْ شُهَداءُ اللَّهِ في الأرضِ” (رواه النسائي).
* نلاحظ هنا أن النبي ﷺ لم يُنكر على من أثنوا على الجنازة شراً ما فعلوه، بل أقر ما قالوه بقوله ﷺ “وجبت”، وبقوله ﷺ “أنتُمْ شُهَداءُ اللَّهِ في الأرضِ“.
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: “كان رسولُ اللهِ ﷺ إذا ذبَح الشَّاةَ يقولُ: (اذهَبوا بذي إلى أصدقاءِ خديجةَ) قالت: فأغضَبْتُه يومًا فقال ﷺ: (إنِّي رُزِقْتُ حُبَّها)” (صحيح ابن حبان).
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: “كان النَّبيُّ ﷺ إذا ذكَرَ خَديجةَ أَثْنى عليها، فأحسَنَ الثناءَ، قالت: فغِرْتُ يومًا، فقُلْتُ: ما أكثرَ ما تذكُرُها حَمراءَ الشِّدْقِ، قد أبدَلَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها خَيرًا منها، قال: ما أبدَلَني اللهُ عزَّ وجلَّ خَيرًا منها، قد آمَنَتْ بي إذ كفَرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ، ورزَقَني اللهُ عزَّ وجلَّ ولَدَها إذ حرَمَني أولادَ النِّساءِ” (رواه أحمد).
ثالثاً: حدود المدح المُباح:
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “إيهٍ يا ابنَ الخطابِ! والذي نَفْسِي بيدِهِ ما لقِيَكَ الشيطانُ قطُّ سالكًا فجًّا؛ إلَّا سلَكَ فجًّا غيْرَ فَجِّكَ” (رواه البخاري).
قال ابن حجر: “وهذا من جملة المدح، لكنه لما كان صِدقاً مَحضاً، وكان الممدوح يؤمَن معه الإعجاب والكِبْر مُدِحَ به، ولا يدخل ذلك في المنع” اهـ.
جاء في شرح رياض الصالحين: “قال العلماء: “وطريق الجمع بين الأحاديث أن يُقال: إن كان الممدوح عنده كمال إيمانٍ ويقينٍ ورياضةِ نفسٍ ومعرفةٍ تامة.. بحيث لا يُفتتن ولا يغتَر بذلك، ولا تلعب به نفسه فليس بحرامٍ ولا مكروه، وإن خيف عليه شيء من هذه الأمور كره مدحه في وجهه كراهة شديدة، وعلى هذا التفصيل تنزل الأحاديث المختلفة في ذلك” اهـ.
ومن المدح المُباح مدح الشخص بما فيه تهيئة لنفسه واستمالة لقلبه لقبول النصيحة، وذلك كما فعل النبي ﷺ مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: “نعمَ الرجلُ عبدُ اللهِ، لو كان يُصَلِّي منَ الليلِ” (رواه البخاري).
قال ابن بطال: “أنه يجوز الثناء على الناس بما فيهم على وجه الإعلام بصفاتهم، لتُعرف لهم سابقتُهم وتقدمُهم في الفضل، فينزلوا منازلهم، ويُقدَّموا على من لا يُساويهم، ويُقتدى بهم في الخير، ولو لم يجز وصفُهم بالخير والثناء عليهم بأحوالهم لم يُعلم أهل الفضل من غيرهم، ألا ترى أن النبي ـ عليه السلام ـ خصَّ أصحابه بخواص من الفضائل بانُوا بها عن سائر الناس وعُرفوا بها إلى يوم القيامة”اهـ.
رابعاً: المدح المذموم:
أما بالنسبة لمن يُخْشى عليه الفتنة، ويُشعره المدح بأن له حقًّا على الناس وفضلاً، أو أن المدح يجعله يتَّكل على عمله ومكانته، فالمدح في هذه الحالة مذموم حفظاً للمرء من العُجب والكبر.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: “سَمِعَ النبيُّ ﷺ رَجُلًا يُثْنِي علَى رَجُلٍ ويُطْرِيهِ في المِدْحَةِ فَقالَ: أهْلَكْتُمْ، أوْ: قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ” (صحيح البخاري).
ومن المدح المذموم أيضاً، مدح الفسَّاق والظالمين، فمدحهم يجعلهم يتمادون في غيِّهم ، وهذا ما يجعل من يقوم بمدحهم شريكاً لهم فيما يقترفون من آثام.
قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} [هود: 113].
وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “لا تقولوا للمنافقِ سيِّد، فإنه إن يكُ سيِّدًا فقد أسخطتم ربَّكم عز وجل” (رواه أبو داود).
قال ابن حجر: “وقال الغزالي في الإحياء: آفة المدح في المادح أنه قد يكذب، وقد يرائي الممدوحَ بمدحه، ولا سيما إن كان فاسقاً أو ظالماً” اهـ.
إن مدح الآخرين شهادة نشهدها لهم بين يدي الله تعالى، وشهادة لهم عند الناس، لذا يجب علينا ألا نشهد إلا عن عِلم، وألا نمدح إلا بحق، وأن نترفع عن المبالغة والمغالاة في ذلك لأن شهادتنا قد تُبنى عليها بيوت، وقد تقام عليها تجارات وشركات وغير ذلك من المصالح.
إن مدح الآخرين شهادة نشهدها لهم بين يدي الله تعالى، وشهادة لهم عند الناس، لذا يجب علينا ألا نشهد إلا عن عِلم، وألا نمدح إلا بحق، وأن نترفع عن المبالغة والمغالاة في ذلك
خامساً: النهي عن الإطراء:
الإطراء هو مجاوزة الحد في المدح والثناء. وقد نهى الرسول ﷺ عن مجاوزة الحد في مدحه بما قد يُفضي إلى تقديسه ورفعه عن كونه بشراً نبياً، فقال ﷺ: ” لَا تُطْرُونِي، كما أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فإنَّما أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولوا عبدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ ” (صحيح البخاري).
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: “أنَّ رَجُلًا ذُكِرَ عِنْدَ النبيِّ ﷺ فأثْنَى عليه رَجُلٌ خَيْرًا، فَقالَ النبيُّ ﷺ: ويْحَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ- يقولُهُ مِرَارًا- إنْ كانَ أحَدُكُمْ مَادِحًا لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أحْسِبُ كَذَا وكَذَا، إنْ كانَ يُرَى أنَّه كَذلكَ، وحَسِيبُهُ اللَّهُ، ولَا يُزَكِّي علَى اللَّهِ أحَدًا قالَ وُهَيْبٌ، عن خَالِدٍ: ويْلَكَ” (صحيح البخاري).
قال المهلب: “وإنما قال هذا، والله أعلم، لئلا يغتر الرجل بكثرة المدح، ويرى أنه عند الناس بتلك المنزلة، فيترك الازدياد من الخير ويجد الشيطان إليه سبيلاً، ويُوهمه في نفسه حتى يضع التواضع لله “.
وأخيراً أقول:
إن النفوس مُثقلة بعناء الدنيا وكدرها وصعوبة المعيشة ولأوائها وهي تحتاج إلى الكلمة الطيبة الحانية التي تذهِب عنها ما تجد وتخفف عنها بعضاً مما تعاني، فهنيئاً لمن رزقه الله تعالى لساناً عذباً، ووجهاً بشوشاً، وقلباً حانياً، وعقلاً راجحاً يعرف متى يتكلم وبما يتكلم، فتجد كلماته في قلوب الناس موضعاً، فتكون هذه الكلمات على القلوب كالنسمة في اليوم الصائف الذي اشتد قيظه، فتألفه القلوب وتهفوا إليه الأرواح ولا تنساه حتى ولو غاب تحت طبقات الثرى.
__________________________
(*) المصدر: “بصائر تربوية”.