مناهج الإعلام والتعليم في طول وعرض البلاد العربية تلح إلحاحاً مغرضاً على قضية يسمونها “قبول الآخر”، دون أن تشرح لنا، كعادتها في مثل هذه القضايا، من هو الآخر الذي يقصدونه.
والحق أنه لا توجد أمة، لا في القديم، ولا في الحديث قبلت “الآخر” وتعاملت معه بالبر والإحسان مثل أمتنا، والتاريخ شاهد، أننا لم نقهر أحداً طوال تاريخنا المديد على اعتناق عقيدتنا، والجغرافيا أيضاً شاهدة على ذلك، فلقد حكمنا بقاعاً امتدت بطول الأرض وعرضها من بينها كل شرق أوروبا مئات السنين وظل الصرب صرباً، والبلغار بلغاراً، واليونانيون يونانيين، والأرمن أرمن، بلغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعقائدهم، وعاش اليهود بين ظهرانينا يهوداً حافظوا على عقائدهم دون تدخل ولا اضطهاد، وعاش المسيحيون مسيحيين محافظين على دينهم وتقاليدهم، وحتى النحل الصغيرة كالأزيديين والزرادشتيين ظلت موجودة حتى يومنا هذا، لم يقهروا ولم يضطهدوا.
والآن يريدون قهرنا على قبول “آخر” من نوع جديد، آخر يحاربنا ويحتل أرضنا ويطردنا منها، مثل الآخر الصهيوني، أو آخر احتل أوطاننا قروناً وما زال ينهبنا ويكرس تخلفنا، ويدعم مستبدينا ويشوّه عقيدتنا ويحقر لغتنا ولغته لم تبلغ عشر معشار ما بلغت لغتنا من سعة وفخامة وعظمة، فإذا قاومنا قالوا: متطرف، متعصب، دموي، إرهابي، ويا للهول! يرفض الآخر.
وآخر “صرعات” أو “موضات” التحقير المتعمد المنصب على الإسلام والمسلمين مصطلح “إسلاموي”.
فهلا عرفتم مصطلحكم الجديد أيها السادة، حتى نعرف من الذي تحاربون، فنحاربه معكم؟ لا! سنقول: “إسلاموي” وما عليك إلا أن تردد معنا كالببغاء، وإلا وصمناك به فلا تسأل، ولكن ردد وسر في القطيع الذي نضمك إليه.
مصطلح “إسلاموي” و”إسلاموية” مصطلح نحته الشيوعيون العرب، والشيوعيون العرب، كما هو معروف، فصيل سياسي ضئيل، لا تكاد ترى له أثراً في الشارع السياسي العربي، ذي مرجعية غير عربية وغير إسلامية، ولكنهم مهرة في صك المصطلحات التي تحقّر الآخر.
ومصطلح إسلاموي، كما يقول المفكر محمد المختار الشنقيطي في معرض عتابه لـ”الجزيرة”، هو مصطلح تحقيري، وقد بدأت “الجزيرة” استخدامه منذ بضعة أسابيع للأسف أسوة بأبواق “الليكود العربي”، فالمصطلح العربي المتداول في ترجمة المصطلحين الأجنبيين Islamic وIslamist هو “إسلامي” وليس “إسلاموي” المحمَّل بمعاني التحقير، أتمنى من “الجزيرة” المحافظة على مصطلحاتها ونهجها.
ويمكن أن نستنتج بسهولة من كلام الشنقيطي أن هناك “مايسترو” يحرك الإعلام من وراء ستار، والجميع، بمن فيهم “الجزيرة”، كما يفهم من كلامه، ينفذون تعليمات المايسترو.
وقد بدأ استخدام هذا المصطلح بكثافة وفي كل وسائل الإعلام في الأشهر الثلاثة الماضية وكأنه اختراع أو اكتشاف لم يكن معروفاً من قبل، ولذلك نستطيع أن نربطه بالحملة الفرنسية التي دشنها ماكرون فرنسا ضد الإسلام بعنوان محاربة “الانفصالية الإسلامية” التي يبدو أنها حملة تشويه عالمية منسقة.
فيرجونا (دفع الشعب لاحتقار لغته الأم)
ولفرنسا تاريخ طويل وتجربة كبيرة في تحقير الآخر، ففرنسا هي التي اخترعت آلية “vergonha” التي تعني أن يخجل المرء من لغته الأم، ونشرت ذلك في مستعمراتها لكي تتحول عن لغاتها القومية، التي تحتقرها بسبب الدعاية السوداء والسياسات العنصرية الفرنسة إلى لغة المستعمر الفرنسي.
وبذلك استطاعت فرنسا أن تحول دولاً كثيرة لاعتناق اللغة الفرنسية، عن طريق دفع شعوبها لاحتقار لغاتهم القومية، ويا ليتهم دفعوهم للتطور والتقدم، ولكنهم كرسوا التخلف والتبعية، وظلت فرنسا إلى يوم الناس هذا لا تساوي بين الفرنسي وغير الفرنسي حتى على أرض فرنسا نفسها وتسعى لإجبار 10 ملايين على الذوبان التام في الجمهورية الفرنسية.
الحركيون الجزائريون
وبالعكس، قامت فرنسا وأبواقها بتسمية الخونة من الجزائريين “الحركيون”، في محاولة لتبييض وجوها سوداء تعاونت وحاربت في صفوف الاحتلال، ودعموا الغزاة وساعدوهم في قتل أكثر من مليون شهيد جزائري.
هذه لعبة ذلك الإعلام الخبيث الذي سمى الاحتلال والغزو والخراب استعماراً، والإعلام المعادي للأمة أشرب تلك السياسة الضالة المضللة التي تدمغ كل مقاوم لها بأوصاف كاذبة وتظل ترددها حتى تجعله، إن استطاعت، يخجل من نفسه، وتجعل قومه الذي اضطهدوا وقهروا وعذبوا وجهلوا يتجنبونه ويتبرؤون منه، ودور الإعلام المقاوم، وقليل ما هم، هو تعرية هؤلاء.
إسلامي وإسلاموي
كلمة “إسلاموي” في التحقير مثل كلمة “شعبوي”، كما يقول محمد المختار الشنقيطي في إحدى تغريداته، ومن لا يرى فرقاً بين “إسلامي” “وإسلاموي”، كمن لا يرى فرقاً بين “شعبي” وشعبوي”، وبين “علمي” و”علموي”! فهو إما شخص ليس لديه ذائقة لغوية، أو لا يفهم المصطلحات ودلالاتها وظلالها المتباينة، وبالتالي لا يفهم جوهر الصنعة الإعلامية.
وهي جزء من حملة تشويهية انطلقت من فرنسا لتشويه الإسلام عندما ادعى ماكرون أن الإسلام يعيش “أزمة” على مستوى العالم.
وماكرون رئيس الجمهورية الفرنسية ليس باحثاً ولا فيلسوفاً حتى يتحدث هذا الحديث عن دين يدين به 10 ملايين مواطن فرنسي، من الشعب الذي يترأس دولته، من بين 67 مليوناً من الفرنسيين، فما الذي يدفعه لهذا إلا أن يكون تدشيناً لحملة تشويه وشيطنة لثاني أكبر دين في العالم.