يبدو والله أعلم أن دخول شركاء في الثروة والنفوذ ومنافسة الغزاة الفرنسيين داخل أفريقيا والشرق الإسلامي، قد دفع فرنسا إلى محاولة تعويض ذلك إلى إعلان الحرب على الإسلام والمسلمين صراحة، كما يبدو أن ساحة الحرب المباشرة ستكون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية القادمة 2022م.
تسعى روسيا والصين والغرب إلى التوغل في ليبيا ومالي ودول الساحل الإفريقي، وبلاد الشام، مما يعني أن فرنسا لن تكون وحدها في نهب البترول والغاز والمعادن الثمينة، مما يؤثر على اقتصادها القائم على السرقة والسلب، وبالتالي سيتاح المجال لآخرين كي يعبروا عن قوتهم الاستعمارية في عمليات النهب المنظمة. والضحية في كل الأحوال هم المسلمون الذين لا يملكون حيلة ولا يهتدون سبيلا، بينما بأسهم بينهم شديد!
تحرشات صليبية
تنمو في المرحلة الحالية الحركات الصليبية الجديدة التي يسمونها الشعبوية، أو اليمين المتطرف في أرجاء فرنسا والدول الأوربية، للتخلص من المسلمين ومحاربة الإسلام، واستدعاء الأجواء التي شهدتها الحرب الصليبية الأولى التي دشنها البابا أوربانوس، وقادها بطرس الحافي عام 1095م، لمحاربة الجنس اللعين (المسلمين) والوصول إلى أرض اللبن والعسل في مهد المسيح (الشرق الإسلامي). وتبدو التحرشات الصليبية بالمسلمين في أوربة علامات على الحرب المباشرة المتوقعة ضد الإسلام والمسلمين داخل أوربة في الفترة القادمة.
نقلت وكالة رويترز من باريس قول وزير المالية الفرنسي برونو لو مير (13/2/2021م) إن زعيمة المعارضة اليمينية المتطرفة مارين لوبان قد تفوز في انتخابات الرئاسة التي تشهدها فرنسا في العام القادم 2022م، ويأمل أن يسعى الرئيس إيمانويل ماكرون للفوز بفترة ثانية لمنع حدوث ذلك. وقد ورثت لوبان زعامة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف عن والدها، وكلاهما يكره الإسلام كراهية مقيتة، وكانت تنافس ماكرون في انتخابات 2017م، ولكنها خسرتها.
تدمير الإسلام
في اليوم نفسه الذي نقلت فيه رويتر تصريح وزير المالية الفرنسي الرافض لرئاستها فرنسا، لم تتوان السيدة العنصرية مارين لوبان، عن الدعوة في بث مباشر إلى محاربة الإسلام ومنع انتشاره، قائلةً: “يجب حشد كل قوات الدولة ومهاجمة الإسلام وتدميره”. وفي سياق متصل قالت السيدة العنصرية لوبان: “يجب شن حربٍ على الإسلام”، مضيفةً أنها ضد الإسلام بكل أنواعه وضد شكله وانتشاره.
وتابعت: “أريد أن أحظر الإسلام من جميع جوانبه، يجب على الدولة أن تحشد كل جهودها من أجل مهاجمة المسلمين وتدمير الإسلام”.
الجدير بالذكر أن السيدة العنصرية مارين لوبان، دعت في وقت سابق إلى منع ارتداء الحجاب للفتيات الصغيرات، منتقدةً عدم سعي الحكومة برئاسة جان كاستكس لمنعه. وقالت في تغريدة لها عبر تويتر، إن رفض طلبات منع ارتداء الحجاب، يشكك في نوايا الحكومة بمحاربة ما أسمته بـ” السرطان الإسلامي”. ولنا أن نتصور ماذا ستفعل فرنسا حين تصل سيدة عنصرية مثل لوبان لقيادتها!
هل هناك فرق بين لوبان وماكرون؟
في الحقيقة لا فرق بينهما في الغاية والهدف، فكلاهما يريد سحق الإسلام، والتخلص من المسلمين. الاختلاف الوحيد هو في الوسيلة والأسلوب.
لوبان تعلن هدفها في صراحة ووضوح وفجاجة. وليست بحاجة إلى إخفاء ما تريد من تدمير وإبادة، للإسلام والمسلمين، وترى أنها تلبي رغبات صليبية في الوجدان الفرنسي الصليبي، الذي سيصوّت في الانتخابات.
ماكرون يستخدم التعمية والتمويه والخداع والتضليل. لأنه يتعامل مع دول إسلامية ترتبط بها مصالح فرنسا الاقتصادية والثقافية والسياسية. وهو مضطر بمنطق رجل الدولة أن يحافظ عليها، ولكنه يتخذ خطوات عملية على الأرض تحقق أهدافه في القضاء معنويا أو ماديا على الإسلام والمسلمين فوق أرض فرنسا، ويمكن أن نشير إلى بعض خطواته فيما يلي:
أولا- أيّد ماكرون ضمنيا إهانة الرسول- صلى الله عليه وسلم- من خلال الرسوم المسيئة، ودافع عن الرسام الصليبي المجرم دفاعا مستميتا تحت لا فتة حرية التعبير، وحين انتقده رسام موريتاني مسلم طرده من البلاد!
مقاطعة البضائع
لقد ثار العالم الإسلامي نتيجة لهذه الإهانة الرخيصة، وانتشرت دعوات المقاطعة للبضائع الفرنسية حين تخاذلت معظم حكومات العالم الإسلامي عن اتخاذ مواقف حازمة ضد فرنسا، بل سعى بعضها إلى مساندة فرنسا وتأييدها ضمنيا، وتسخير أبواقها الصحفية والدعائية والثقافية ووعاظ السلطة ليدافعوا عن فرنسا، ويدينوا المسلمين ويهوّنوا من تأثير المقاطعة على الاقتصاد الفرنسي، ولولا أن التأثير كان قويا، ما قام مسئولون فرنسيون على مستوى رفيع بزيارة بعض الدول العربية لمنع المقاطعة، ومحاولة إقناع الشعوب بالتخلي عن المقاطعة من خلال تصريحات مراوغة والزعم أن فرنسا بلد علماني!!
الإرهاب الإسلامي
ثانيا- روّج ماكرون لما يسميه “الإرهاب الإسلامي”، ووجد استجابة كبيرة في البلاد العربية من حزب فرنسا، الذي يضمّ نخبا من المسئولين والمثقفين وأصحاب المصالح الموالين للغرب والكارهين للإسلام.
إن الإرهاب الغربي وخاصة الفرنسي أشد وحشية من أي إرهاب آخر في العالم، وما أمر فرنسا في الجزائر ببعيد حين قتلت من شعبها المسلم أكثر من مليون جزائري في حرب التحرير وحدها، وأقامت متحفا – يا للسخرية- لجماجم الشهداء في باريس!
بل إن الشهر الحالي (فبراير) يذكرنا بمجزرة من مجازر فرنسا الوحشية التي لا يقترفها من توجد لديه ذرة إنسانية. أعني مجزرة ساقية سيدى يوسف في دولة تونس الشقيقة، والمجزرة باختصار أن فرنسا قامت يوم 8 فبراير 1958م بقصف قرية سيدى يوسف على الحدود الجزائرية فسوتها بالأرض وأبادت أهلها جميعًا، مستخدمة 27طائرة ظلت تدك القرية على مدى ساعة تقريبا، قتلت أهل القرية الذين يتجمعون في السوق واللاجئين الذين يأتون إليها من القرى المجاورة للتسوق، وزعمت أن القرية فيها قاعدة لمن تسميهم الإرهابيين الجزائريين، تقصد جيش التحرير الجزائري، وبعد المجزرة بساعات، توجه صحفيون ومصورون تونسيون وفرنسيون وأجانب، إلى ساقية سيدي يوسف، لتصوير مراكز الثوار الجزائريين “المدمرة”، لكنهم أصيبوا بالذهول عندما رأوا أن قرية دمّرت بأكملها ودُفن أهلها تحت الأنقاض، واستهدف سوقها الأسبوعي المكتظ بالناس، كما هُدّمت مدرسة القرية وتناثرت فوق أنقاضها أشلاء التلاميذ وأدواتهم المدرسية!
الانفصالية الإسلامية
ثالثا- راح ماكرون يتحدث عما يسميه الانفصالية الإسلامية أو الانعزالية الإسلامية، ويتهم المسلمين الفرنسيين بأنهم يتجاوزون القانون، ويعدون أنفسهم جزءا لا ينتمي لفرنسا، ويريدون تطبيق الشريعة الإسلامية دون القانون الفرنسي.
وقد أعدّ قانونا يحارب ما يسميه الانفصالية الإسلامية، وطرحه على الجمعية الوطنية (مجلس النواب) ولقي استجابة كبيرة من الأعضاء. وتصديقا عليه فيما يسمى القراءة الأولى (عند كتابة هذه السطور)، والهدف منه تشويه صورة الإسلام ومحاصرة المسلمين في مساجدهم وعباداتهم ووجودهم الاجتماعي داخل فرنسا، والانتصار لما يسمى أصحاب البشرة البيضاء من الفرنسيين.
ووفقا للصحف الفرنسية: “يهدف مشروع القانون إلى إلزام الهياكل التي تدير أماكن العبادة بأن تكون شفافة للغاية بشأن مواردها، سواء كانت فرنسية أو أجنبية، حيث تشك الحكومة الفرنسية في تلك المصادر، لأن بعض الهياكل الإسلامية، في رأيها، تنشر شكلا من أشكال الإسلام الراديكالي تحت ستار الأنشطة الثقافية”.
وأصدر وزير داخليته جيرالد دارمانان كتاباً عنصريا فجا عما يسميه “الانفصالية الإسلاموية”، وكان قد أعلن في مطلع ديسمبر2020م، اعتزام سلطات بلاده مراقبة 76 مسجدا في البلاد، بعدها أغلق 12 مسجدا، في حملة جديدة ضد مساجد المسلمين. وسبق أن أكدت وسائل إعلام فرنسية، أن 18 مسجدًا آخر في العاصمة وحدها من الممكن إغلاقها.
البشرة البيضاء
ينطلق ماكرون من أن أصحاب البشرة البيضاء يشكلون العمود الفقري للهوية الوطنية، وأكد في مقابلة مع موقع “اكسبريس” الفرنسي، في 22 ديسمبر الماضي تفضيل أصحاب البشرة البيضاء، ولهذا يصرّ ألاّ يزعجهم الأشخاص الذين يتحدّثون ويتعبّدون باللغة العربية، وعند وجودهم بالمجال العام، يجب عليهم احترام الثقافة الشاملة لبلد الإقامة.
الحرية إرهاب!
رابعا- أضحت حرية التعبير عن الرأي بالنسبة للمسلمين الفرنسيين إرهابا، وتعرّض صاحبها للوقوف في قفص الاتهام.. مما يشكل مفارقة مضحكة مبكية، فقد حوّلوا إماما تركيا إلى المحكمة بتهمة الإرهاب لأنه بوصفه مواطنا فرنسيا انتقد سياسة الرئيس ماكرون في مواجهة وباء كورونا.! وقد أوردت الأناضول(11/2/2020م) أن فريد سليم الذي يعمل إمام مسجد في فرنسا منذ 20 عاماً لم يتخيل أن ما كان يعلّمه للناس من ضرورة الاعتزاز بحرية الرأي والتعبير سيكون سبباً في جرّه إلى ساحات القضاء. سليم يمْثُل حالياً أمام القضاء بتهمة “الترويج للإرهاب”؛ لأنه فقط مارس حقه في التعبير عن رأيه، وقال: إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان أكثر نجاحاً من نظيره الفرنسي مانويل ماكرون في التعامل مع وباء كورونا.
وقال سليم في حديث لـ”الأناضول” عقب جلسة المحكمة: إن الشرطة داهمت منزله، وقامت بتفتيشه، وأخبروه أنه متهم بالترويج للإرهاب، وتهديد فرنسا. وأفاد سليم بأن الشرطة فحصت هاتفه وأجهزة الكمبيوتر الخاصة به وبزوجته أثناء تفتيش المنزل، ولم يعثروا على أي شيء يتعلق بالإرهاب أو يُعد تهمة ما، كما ورد في تقرير الشرطة. وأضاف سليم: لم تجد الشرطة ما يمكنها اتهامي به، فلماذا تتم محاكمتي؟ أنا متهم بالتعبير عن رأيي مثل أي مواطن فرنسي، أين هي حرية التعبير؟
ستار العلمانية
خامسا- يرفع ماكرون راية العلمانية ستارا لحماية خطواته المعادية للإسلام، ويزعم أنها لا تهدّد الإسلام، ولكنها تحمى القيم الفرنسية، ولكنه في حقيقة الأمر يحرف العلمانية الفرنسية لـ ”ضرب” المسلمين واستمالة اليمين العنصري كما قالت المجلة الأمريكية” لوس أنجلوس ريفيو أوف بوكس” في 12/2/2021م، ووفقاً لقراءة موسعة للمجلة، فإن العلمانية الفرنسية تستهدف على ما يبدو الآن أقلية من أصول مهاجرة، يعيش أفرادها في مساكن عامة، وهم يواجهون التنميط العنصري والتمييز في التوظيف، وهي أقلية تعرض أسلافها للضرب حتى الموت في نهر السين في عام 1961م.
ويرى بعض المحللين أنه بينما وصف ماكرون العلمانية بأنها ليست تهديداً، بل درعاً يمكنه القضاء على المشكلات المحيطة بالاختلافات الدينية في البلاد، فقد جعلت مجلة “شارلي إبدو” الفرنسية الانقسام بين الإسلام والعلمانية أكثر وضوحاً، ومع الأسف، أصبحت العلمانية ديانة في نهاية الأمر. ومع القيود التي يفرضها القانون على المدارس والملابس وأماكن العبادة وأنشطة المنظمات غير الحكومية، ستبرز حالات عدم المساواة التي ظهرت ضد المسلمين في الحياة الاجتماعية بشكل أكبر.
مقاومة واستنكار
يسعى ماكرون إلى الضغط على المسلمين لقبول خطواته العدوانية الاستئصالية، ولكنه يواجه بمقاومة واستنكار من الأصوات الحرة وأصحاب الضمائر في فرنسا وخارجها، فضلا عن المسلمين المخلصين، وقد رفضت بعض المنظمات ضغوطه للتوقيع على قانونه المريب الذي يحمل اسم “ميثاق مبادئ الإسلام الفرنسي”، بصيغته الحالية ما لم يتم إجراء تعديلات عليه. وقد عبر بعض قادة هذه المنظمات عن رفضهم للقانون لأن بعض مواده ضد المسلمين، وفي حوار مع “الأناضول”، أبدى “صاري قير”، أحد هؤلاء القادة، اعتراضه على عبارات في القانون تزعم أن الدين الإسلامي ضد فرنسا، وعبارات ترى أن القوانين الفرنسية يجب أن تكون أعلى من الدين، مؤكداً أن ذلك مخالف للقوانين الفرنسية وينتهك قانون العلمانية لعام 1905م الذي ينص على فصل الدين عن الدولة. كما أبدى تحفظه على تصريحات وزير الداخلية الفرنسي ضد المسلمين، متمنياً ألا يكرر مثل هذه التصريحات في المستقبل. وأكد أنهم (قادة المنظمات) سيصرّون على موقفهم، مضيفاً: ليس لدينا أية مشكلات مع القوانين الفرنسية، كل ما يشغلنا هو الكفاح من أجل أن يتمكّن المسلمون من ممارسة دينهم بحرية.
من سيفوز؟
إن ماكرون لا يختلف عن لوبان إلا في الوسيلة والأسلوب، ولهذا يبذلان كل ما في طاقتهما من أجل أصوات الناخبين، وإشباع حالة التعصب الصليبي العنصري لدى كل منهما.. فمن سيفوز ويكون رئيس الحرب القادم على الإسلام في فرنسا التي يسميها بعضنا بلد “التنوير والحضارة”؟